مفهوم حديث يُراد به نوع من الهيمنة الفكرية المرتبط باللغة، والمؤدّي إلى تهديد الأمن الفكري والثقافي واللغوي للمجتمع، وما تتركه هذه الهيمنة من آثار سلبية على التنمية والتماسك الاجتماعي. هناك فرق بين اللهجمة والاستعمار اللغوي والاستعمار الثقافي، فاللهجمة تأثير اللغة على مستوى الأفراد من دون وعي بهذا التأثير ويشمل شخصية الفرد، والاستعمار اللغوي توجّه عام يشمل مجموعة كبيرة من المجتمع تتحكّم فيه غالبا مؤثّرات اقتصادية وتاريخية وإراضية، أمّا الاستعمار الثقافي فمرتبط أساسا بالثقافة وأنماط المعيشة والاستهلاك والتي غالبا ما تُحبك هذه الأنماط في مصانع التوليد الثقافي الأمريكي كالمخالة والإشباكة والإشهار والأدب والمسرح، وقد أصبح اليوم بزوال الحدود بين البلدان عابرا للقارّات وأصبحت معه الثقافات الأوروبية نفسها والتي كانت مهيمنة عرضة للتفتّت والاضمحلال. ويختلف الاستعمار اللغوي عن التعددية اللغوية التي تعني استعمال أكثر من لغة، سواء تعلّق الأمر بالأفراد أو المجتمعات، والمجتمع المتعدّد اللغات هو الذي يضمّ أعراقا مختلفة اللغات لها الحق جميعا في استعمال لغاتها في الحياة اليومية والشؤون الإدارية والتعليمية، كما يُراد بالتعدّد اللغوي تبنّي سياسة حكومية تهدف إلى التركيز على مجموعة من اللغات ذات التأثير العالمي من الناحية الاقتصادية والعلمية لتعليمها وتدريسها في الأطوار المختلفة، من أجل التواصل الخارجي في المجال السياسي والتجاري وحتّى الثقافي، ويمكن التفريق بين التعدد اللغوي والتنوّع اللغوي أنّ هذا الأخير ينتج من تشعّب اللغة الواحدة إلى عدة لغات فرعية وانقسامها إلى لهجات أو لغات متميّزة الخصائص والسمات. أمّا الاستعمار اللغوي فهيمنة للغة واحدة أجنبية غالبا ما تكون لغة المستعمر القديم على جميع المجالات الاجتماعية، بحيث تُحدث شرخا في المجتمع بين أفراده الذين لا يستطيعون أن يستوعبوها أو يتمثّلوها وبين نخبة مُسيطِرة على الحكم ترى مصلحتها في التحدث بهذه اللغة والتواصل بها.
اللغة الأجنبية
ممّا لا شكّ فيه أن تعليم اللغات الأجنبية هو مسؤولية حكومية بالدرجة الأولى، يأخذ تمويله من المال العام، حيث تكون رواتب المدرّسين هي القسم الأكبر من هذه النفقات، وما دام التمويل محدودا فمن الضروري أن تُختار لغة واحدة أجنبية أو لغتان من بين المجموع الكلّي للغات المعروضة في السوق الدولية، ويخضع الاختيار عموما لاعتبارات سياسية واقتصادية وللتقاليد والبرامج الدراسية، إلاّ أنّ الاعتبارات الاقتصادية تكون على الأرجح المحدِّد الأهمّ لهذا الاختيار، حيث تتضمّن العوامل المهمّة نوع تعليم اللغة الأجنبية ومحتواها وحجم البلد وموقعه السياسي ومستواه في التصنيع وعلاقاته الاقتصادية بالدول، فاللغة التي يمكن أن تحظى في بلد ما بالمكانة الثانية بعد اللغة الأم هي لغة أهمّ الشركاء التجاريين، فهولندا على سبيل المثال بلد صغير نسبيا ولغته لا يتحدّث بها بشكل واسع خارج حدوده، إلاّ أنّ اعتماد اقتصاد هولندا لمدّة قرون على التجارة الخارجية جعل الاعتماد على الكلزية والألمانية والفرنسية ضرورة اقتصادية ملحّة بالنسبة إليها، وأصبحت بذلك في واقع الأمر مقرّرات إجبارية في التعليم العالي. ومعظم السياسيين المعنيين بالشؤون التعليمية والثقافية اليوم يعتبرون اللغة الكلزية أهمّ لغة أجنبية، وقد اتّجهت كثير من الدول إلى هذه اللغة بعد أن كانت تعتمد على غيرها في التواصل الخارجي، ومثال ذلك الصين الشعبية، ففي الخمسينيات الميلادية وبداية الستينيات كانت الروسية هي اللغة الأجنبية الأكثر أهمّية، وفي عام 1980م كان لدى كثير من أقسام اللغة الروسية في الجامعات الصينية من المدرّسين أكثر ما لديها من الطلاّب، ولكن الصين أدركت أن الإنفاق على إعداد المترجمين والملسّنين وأساتذة الجامعة في اللغة الروسية إساءة استثمار مُخطِرة وذات عواقب وخيمة، وفي غضون تلك الفترة طُوِّعت مناهج اللغة الأجنبية للاحتياجات اللغوية الفعلية متيحة للكلزية مجالا أوسع للتدريس.
وعليه فإنّ الجزائر اليوم باختيارها للغة الفرنسية لغة أجنبية في أطوار التدريس المختلفة وإصرارها على هذا الاختيار، فإنّها بذلك تختار الموضوع الخاطئ وتقوم بإهدار الموارد المالية والقدرات البشرية بشكل فادح، حيث يلزم أن تكون المناهج الجامعية وليست الابتدائية هي الموجّهة بقوّة للاحتياجات العلمية. إنّ عملية نشر اللغة الفرنسية في الجزائر منذ الاستقلال إلى اليوم له ما يبرّره للطبقة المسيطرة على هياكل الدولة الجزائرية، إنها ترمي إلى تسويغ استعمال اللغة الفرنسية في الإدارة والشؤون العامّة وغيرها وخلق المدد لها من خلال تعليمها في المراحل الابتدائية، ومحاولة تعميمها لتجد هذه الطبقة عند المواطن العادي من الذخيرة اللغوية الفرنسية ما يمكّنها من التعامل معه. ومعلوم أنّ اكتساب لغة ثانية لا سيّما في حالات التعدّد اللغوي المرتبط أساسا بالمجالات الاقتصادية يُعتبر الخطوة الأولى نحو التحوّل اللغوي، فالاحتياجات الاتصالية في التجارة والعمل والأسواق هي احتياجات ملحّة سرعان ما يتحوّل الشخص تحت وطأتها إلى لغة أخرى ثانوية غير لغته الأولى الأصلية، ومثل ذلك تماما حينما ترتبط الإدارة الرسمية بلغة ثانوية فإنّها سرعان ما تتغلّب هذه اللغة على اللغة الأصلية الأولى لا سيّما إذا كان التوظيف يتمّ من خلال معرفة هذه اللغة الثانوية، وأنّ الترقيات منوطة أساسا بإتقانها. زيادة على هذا فإنّ هناك سببا آخر يذكره «فلوريان كولماس» في كتابه اللغة والاقتصاد في قوله: «لقد تواصل تصدير اللغات الأوروبية، ولكن على نحو جزئي فقط في أعقاب التطبيق الواعي لهذا المبدأ، ولكن النتائج في التطبيق العملي كانت متماشية معه على الرغم من أنّ سَنافات (استراتيجيات) البيع التجاري أو الموسّع لم تكن في الغالب ضرورية تماما، فقد اقتنعت النخبة المختارة في المستعمرات بسهولة بتفوّق المنتجات الأوروبية، ومن ثمّ فقد تبنّت بسهولة ولمصلحتها لغات سادتها، وقد أدّى هذا إلى منفعة اقتصادية دائمة للقوى الاستعمارية، لأنّها بهذه الوسيلة قد فتحت لها الطريق للوصول بسهولة إلى أسواق ما وراء البحار التي ما زالت تتمتّع بها حتّى اليوم وبعد توقّف أعلامها هناك عن الرفرفة منذ زمن طويل».
وممّا لا شكّ فيه أيضا أنّه من غير المعقول في الجزائر وفي بعض الدول العربية إقرار تعليم اللغة الفرنسية واللغة الكلزية في المستوى الابتدائي والمتوسّط ليشمل كلّ أفراد المجتمع، لأنّ المرحلتين الابتدائية والمتوسّطة تُشكِّل مستوى ضروريا من التحصيل العلمي لكلّ أفراد الشعب، بالإضافة إلى التسرّب المدرسي الذي يزداد بازدياد المستويات التعليمية يجعل ما يُنْفق في السنوات الأولى من التعليم الابتدائي والمتوسّط جهدا ضائعا، وما تمّ تحصيله لا يُمْكِن توظيفه فيما بعد، فعدد قليل جدّا من التلاميذ يستطيعون الوصول إلى مستويات تعليمية عالية، لذلك فإنّه لا يوجد سبب لتسويغ نفقات إضافية على تعليم ناساني طويل المدى ليس له عائد، وعوض إنفاق الأموال العامّة على تدريس لغة أو لغتين فإنّ الأصلح هو توجيهها إلى الترجمة والتلسين، وبذلك نخدم اللغة العربية بجعلها أكثر تكيّفا مع العلوم الحديثة، وخدمة أنفسنا في الوقت نفسه بما يصحب ذلك من تقدّم علمي يرتبط باحتياجاتنا الضرورية الخاصّة بنا، وتطوير اقتصادنا بما تقدّمه لنا اللغة العربية باعتبارها لغتنا القومية من دعم وسند في مجال التجارة في حالة ما كان لها انتشار خارج حدودها الطبيعية، كما أنّ الوقت المخصّص لتعلّم اللغات الأجنبية يمكن توظيفه لتعميق التلاميذ في معرفة لغتهم العربية. قامت الشركات اليابانية ومعظمها شركات خاصّة بإنفاق أموال ضخمة من أجل الترويج للغة اليابانية في بريطانيا التي تُعتبر بحقّ الدولة الأكثر تخلّفا في مجال تعلّم اللغات الأجنبية، وقد بلغت هذه الاعتمادات المالية الضخمة فيما بين العامين الميلاديين 1975 و1988 حوالي 13 جَلْف ين، فاليابانيون يرون أنّ نجاح الشركات الغربية في اليابان يُعتبر ضئيلا جدّا وأنّ ذلك مضرّ بنموهم الاقتصادي وعليه فهم يحاولون أن يتجاوزوا الحاجز اللغوي والثقافي بينهم وبين شركائهم التجاريين.
إنّ تعليم أبنائنا في أيّامهم الأولى تعليما منتظما على اللغة الفرنسية سيجعلهم إذا شبّوا أكثر ميلا واستعدادا لأن يتشرّبوا روح المدنية الغربية، لأنّهم سيجدونها قد نشأت معهم نشأة اللحم والدم، وامتزجت بعقولهم وأنفسهم، ويرونها في ذكرياتهم وتصوّراتهم الموغلة في القدم والممتدّة في أذهانهم وأحلامهم الصغيرة، سيسمعون صداها يناديهم من أعماق أعماقهم من ذلك الوعي الأوّل بالوجود، والنتيجة المنطقية أنّهم سينظرون إلى ماضي أمّتهم ومستقبلها نظرة الكره والاحتقار، وسيكون جوّها الفكري عبئا ثقيلا على القُوى الدينية الكامنة فيهم، وسيكون موقفهم من أمّتهم ودينهم على الأرجح موقفا عدائيا، لا سيّما إذا كانت العربية ستنزوي في المرحلة التعليمية العالية لتطغى الفرنسية أو الكلزية بعد ذلك على كلّ مواد التدريس.
حينما قرّر حزب جبهة التحرير الجزائري في السبعينيات الميلادية تدريس اللغة العربية لأبناء الجزائر المغتربين في فرنسا وافقت فرنسا على ذلك بشرط أنّ تتكفّل الحكومة الجزائرية بالإنفاق على هذا التعليم، وعبّر بعض أطفال الفرنسيين عن رغبتهم في تعلّم العربية مع زملائهم الجزائريين، فمنعهم مدراء المدارس، فاشتكى أولياء الأطفال من هذا المنع، ولمّا رُفعت القضية إلى مجلس الوزراء الفرنسي في عهد «ديستان» أكّد هذا المنع فذكّر بالقرار التربوي الفرنسي الذي يمنع تعليم لغة غير الفرنسية للأطفال الفرنسيين في المرحلة الابتدائية من التعليم الفرنسي، يقول الربيز عثمان سعدي تعليقا على هذا الأمر في كتابه التعريب في الجزائر: «فالمسؤولون في فرنسا يرون أنّ في تعلّم الطفل الفرنسي في المرحلة الابتدائية للغة العربية خطرا على شخصيته الفرنسية المترعرعة، مع أنّ اللغة العربية أقلّ تطورا من الفرنسية في هذه المرحلة التاريخية على الأقلّ وتهديدها للغة الفرنسية بفرنسا أو لنفسية الطفل الفرنسي أقلّ بكثير من تهديد الفرنسية للعربية ولنفسية الطفل في بلد كالجزائر».
تفتح اللغة آفاقا واسعة للاتصال والبلوغ به درجة عالية من الكفاءة، فوظيفتها التعمّق إلى أبعد الحدود في الثقافة والأدب والعادات والتقاليد والإحاطة بالمدنية التي تمثّلها، وإدراك الشخصية الجمعية للمجتمع، ومع انفتاح هذه الآفاق الواسعة للاتصال تنفتح معها أيضا تلك المؤثّرات السلبية، منها تقبّل الميل العقلي والجو الفكري المصاحبين لهذه اللغة، ويبدو أنّ هذه المؤثّرات السلبية التي صحبت اللغة الفرنسية قد عملت عملها في المجتمع الجزائري، يقول عثمان سعدي: «وبدل أن تسود حياتنا طليعة من المناضلين، سيطرت عليها طبقة من الموظفين المفرنسين، طموحهم أن يعيشوا كما يعيش موظفو الإدارات والأحياء في فرنسا بكلّ ما يملكه مجتمع استهلاكي كالمجتمع الفرنسي، ولو كان عن طريق الكسب غير المشروع والطفيلي الذي يتناقض حتّى مع مقاييس الكسب في البلدان الرأسمالية نفسها، وهمّهم أن يعبّروا عن مظاهر حياتهم بهذه اللغة التي يرونها لغة الرقي، وهي اللغة الفرنسية، فعمّ التنافس بين هؤلاء الموظفين في (الكفاح) من أجل إتقان اللغة الفرنسية ومن أجل تعليمها لأبنائهم، وأصبح حلم كلّ موظّف من هؤلاء إدخال ابنه أو ابنته إلى المدارس التي تتبع السفارة الفرنسية بالجزائر، ثمّ إرساله فيما بعد إلى الجامعات الفرنسية بفرنسا، من دون أن يفكّروا في تعلّم لغتهم الوطنية وتعليمها لأبنائهم، التي بدونها لا يمكن أن تُمارس الوطنية الجزائرية ذاتها، ثمّ خرجت هذه المفاهيم غير الثورية وغير الوطنية في الحياة والتربية والثقافة عن نطاق طبقة الموظّفين، لتعمّ سائر حياة المواطنين العاديين».
لقد شكّلت النخبة المتغرّبة في الجزائر عقبة كأداء أمام تنمية الجزائر الاقتصادية ورقيّها العلمي وتطوّرها اللغوي والحضاري، في مارس من عام 1960م ألقى السيّد «لخضر بن طبّال» وزير الداخلية في الحكومة المؤقّتة محاضرة أمام مناضلي حزب جبهة التحرير الجزائري بالمغرب، فطرح عليه أحد الحاضرين السؤال التالي: لماذا لم تُحدِّد المؤسّسات المؤقّتة للدولة الجزائرية اللغة الوطنية، التي ستُرسّم في الجزائر بعد الاستقلال؟ وكان جواب بن طبّال على هذا السؤال ما يلي: «إنّه عن عمد لم يتمّ تحديد اللغة الرسمية.. لأنّ هذا المشكل ليس مستعجلا إنّه من صلاحيات المَناب (مجلس النوّاب) والحكومة اللذين سيُنصّبان عند تحقيق الاستقلال.. ونحن لا نشكّ بأنّ اللغة العربية سيكون لها مكان، لكن ينبغي علينا أن نكون واقعيين فنعتبر أنّ اللغة ما هي إلاّ أداة، بل وآلة للتعبير عن الأفكار، وفي انتظار أن تصير اللغة (أي العربية) مستعملة بسهولة، لابدّ، أحببنا ذلك أم كرهنا، أن نعمل باللغة التي نملكها أفضل، حتّى وإن كانت هذه اللغة هي الفرنسية»، ويُعلّق الربيز: عثمان سعدي على هذا بقوله: «وقد تابع مشاهدو الرناة الجزائرية سنة 1992م السيد بن طبّال وهو لا يتكلّم إلاّ بالفرنسية بعد ثلاثة عقود من الاستقلال».
يُعتبر «نويه ويبستر» Noah Webster أبو الاستقلال اللغوي لأمريكا، يقول هذا القومي: «بوصفنا أمّة مستقلّة فإنّ كرامتنا تدعونا لأن يكون لنا نظامنا الخاص في اللغة والحكومة». أمّا المسؤولون الجزائريون إبّان الاستقلال فقد كانوا أقلّ وعيا وأقلّ كرامة أيضا من هذا الأمريكي، فلم يكونوا سوى مجموعة نُخْبِية من الطراز الرديء، نشأت نشأة مختلّة في حقبة استعمارية تركت آثارها السلبية البالغة على نفسيتها وعلى المجتمع الجزائري بعد ذلك حين سيطرت على إدارة الدولة الجزائرية منذ عقود إلى اليوم فأساءت فيها لنفسها وللوطن وللدين، لقد صرّح أحد السفراء الفرنسيين في الجزائر أنّ تقارير بعض المسؤولين الجزائريين كانت تصل إلى فرنسا قبل تقاريره [جريدة الشروق، العدد 585، تاريخ 05 رجب 1423]. وإذا كان بن طبّال يرى أنّ اللغة ما هي إلاّ أداة فإنّ الأمر يختلف تماما عند «يوهان غوتليب فيخته» Johann Gottlieb Fichte يقول هذا الفيلسوف الألماني الكبير في كتابه نداء إلى الأمّة الألمانية: «إنّ الذي يفقد لغته يفقد الخيط الذي يصله بالأجداد، ويفقد معها حلقات ماضيه، ويشعر بفجوة عميقة حقيقية في تطوره، وينقطع عن أصله، كجلمود صخر انفصل عن الصخرة الأمّ، وحطّه السيل من علٍ، فجرفه وقذف به بعيدا إلى أعماق الذوبان، والامّحاء و(اللاوجود) لأنّ اللغة الأصلية هي الحياة، والتي تمد بالحياة، ولأن الأمم المغلوبة التي تفقد لغتها تندمج وتذوب في جنس الأمّة الغالبة. إنّ اللغة تؤثّر في الشعب المتكلّم بها تأثيرا لا حدّ له، يمتد إلى تفكيره وإرادته وعواطفه وتصوّراته، إلى أعماق أعماقه، وإنّ جميع تصرّفاته تُصبح مشروطة بهذا التأثير ومتكيّفة به... بل وأبعد من هذا، إنّ الشعب المتأثّر بلغة أجنبية يبتلع من دون شعور حتّى الشتائم الموجّهة إليه، ويتبنّاه ويُوجّهها إلى نفسه، على الرغم من أنّها ضدّه، وعندما يفيق من ذلك، فكلّ ما يبقى له هو محاولة التجرّد من نفسه، وتقمّص شخصية الأمّة الغالبة مادّيا أو روحيا أو كليهما معا، حتى يتمّ اندماجه فيها كلية ولا تنطبق عليه كلمات التحقير المخصّصة لبني قومه... ولأنّ اليونان غرسوا في الرومان مركّب النقص وسمّوهم المتوحشين، حاول الرومان طاقة جهدهم تقليد اليونان في كلّ شيء، ليتخلّصوا من جلبابهم، ويُصبحوا يونانا ولا تنطبق عليهم صفة المتوحشين».
اللغة والثقافة
اللغة في أوسع معانيها هي رموز وكلمات يستعملها مجتمع معيّن للتعبير عن مفاهيمه ومدركاته، وهذه الرموز هي الطريق المباشر للتعبير عن الحقائق المادّية الملموسة أو المفاهيم الفكرية المجرّدة، إلاّ أنّ التجريد يدلّ على درجة من التطوّر الحضاري، فتسمية الحقائق المعنوية يعني التعامل مع القيم والمثل، كما أنّ اللغة تحمل قواعد التعامل مع الجماليات اللفظية والتذوّق الفنّي الأدبي الذي ينبع من خصائص كلّ مجتمع ومن واقعه، ويستجيب الفرد للوعي الاجتماعي من خلال اللغة، فهي تصوغ نظام القيم السلوكية التي تسود في مجتمع معيّن، ففي اللغة الإيطالية على سبيل المثال، خطاب الرجل بلغة المؤنّث تعبير عن الاحترام، وهو يعكس قيما معيّنة ترتبط باحترام المرأة ومكانتها في المجتمع، وفي تقاليد اللغة الكلزية ينعدم استعمال أسلوب الجمع في خطاب الفرد أيّا كانت منزلته، وهذا يعني التأكيد على مفهوم معيّن للمساواة في المجتمع السياسي الكلزي. إنّ الثقافة هي التي تصنع التاريخ، وليس ثمّة تاريخ بلا ثقافة، والشعب الذي يفقد ثقافته يفقد بالضرورة تاريخه، وتاريخ الإنسانية هو سلسلة مترابطة من التقاليد الثقافية، ولا يصنع هذا التسلسل والاستمرار سوى التعبيرات اللغوية، فاللغة نظام متكامل للقيم الفردية والجماعية والجمالية. يقول حامد ربيع عن التقاليد الصهيونية السياسية منذ بداية الحركة في نهاية القرن الماضي: «إنّ هناك عناصر ثلاثة تقوم عليها الدعوة (الصهيونية)، أرض ولغة وسيادة، فالأرض هي الوعد الإلهي، واللغة هي روح الشعب التي تكلّم بها الإله مع أبنائه، والسيادة هي المظهر المعبِّر عن الوجود السياسي للأمّة المختارة في عالم الحضارة المعاصرة، ولذلك فقد كانت عملية إحياء اللغة العبرية تعني في ذهن الآباء الأوائل المحور الحقيقي للسياسة الداخلية والثقافية، بل إنّ هذا الهدف يتبلور من خلال إنشاء الجامعة العبرية في القدس قبل إنشاء الدولة ذاتها بأكثر من عشرين عاما، إنّ إحياء اللغة العبرية يصير إلغاءً لألفي عام من التشرّد، وخلق الرابطة المباشرة مع الأجداد الأوائل، ومن ثمّ التواصل مع الشعوب الأخرى خلال فترة المهجر».
العقل البشري عقل متفوّق مقارنة بقدرات الكائنات الحيّة الأخرى وآلات الذكاء الاصطناعي على معالجة المعلومات وأنشطة التفكير الذهني، ولكن ما يُحقّق للعقل البشري هذا التفوّق المتميِّز هو التعامل المستمر والعميق مع الرموز الثقافية، وأخطرها على الإطلاق اللغة والمعرفة والقيم والمعتقدات الدينية، ولكي ينمو العقل البشري ويصل إلى درجة التفوّق عليه أن ينهل من هذا المعين الثقافي، وقد بيّنت الدراسات النفسية الاجتماعية الحديثة الأثر السلبي للحرمان الاجتماعي على الذكاء البشري، وإنّه يعتمد إلى حدّ بعيد على المَحاط الثقافي برموزه التي تتيح عملية تحويل البشر إلى كائنات اجتماعية، وقد بيّن «هنْت» 1986م في كتابه أنّ التفكير المتقدّم يعتمد على التعامل العقلي باستعمال الرموز، وأنّ الأنساق الرمزية غير اللغوية مثل أنساق الفنّ وأنساق الرياضة على الرغم من تعقّدها تمثّل نسقا رمزيا غير محدود وقادرا على التعبير عن كلّ أنواع التفكير، «إنّ اللغة هي أساس الثقافة ولا يُمكن وجود ثقافة من دونها ولا عن طريق أي نسق رمزي آخر، إنّها الطريق الذي نستعمله نحن البشر لنتّصل ببعضنا بعضا ونوصل أفكارنا، ونتلقّى من بعضنا بعضا خلاصة الفكر»، بمعنى آخر أنّنا لا نستطيع أن نستغني عن اللغة في التفكير وإن كنّا في بعض الأحيان نفكّر من دون أن نستعمل الكلمات.
اللغة والتنمية
إنّ اكتساب منظومة اصطلاحية جانب من تطوّر المجتمع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وجزء منه، وبالدرجة التي يتحقّق بها التقدّم في هذه المجالات تنشأ منظومة اصطلاحية أكثر تطوّرا وفعّالية، حتّى اللغات الأوروبية المشتركة اليوم تكيّفت بالتصنيع والتحديث لمقتضيات الاتصال في مجتمعاتها، واستيراد لغة أجنبية لتلبية الاحتياجات الاتصالية المتأصّلة في الاحتياجات الاقتصادية، لا يبدو مؤشّرا جيّدا على التقدّم في هذا الجانب، لأنّها لم تنشأ بالترابط مع الاحتياجات الاتصالية والضرورات الاقتصادية التي يقوم عليها المجتمع. واللغة أداة اتّصالية واستغلال هذه الأداة استغلالا تامّا لا يكون إلاّ باللغة الأصلية، فاللغة الأجنبية تجعل هذا الاكتساب أكثر صعوبة، ولعلّ العشرين بلدا من البلدان الخمسة والعشرين الأفقر في العالم التي تستعمل لغات أجنبية أداة اتّصال رئيسة تبيّن لنا السبب في الفقر والأمّية التي تصل في بعضها نسبة 90%، والشيء الملاحظ أنّ حملات محو الأمّية لا تكون باللغة الأجنبية، فالغالبية العظمى من البلدان الإفريقية التي تمسّكت باللغات الأجنبية التي ورثتها من الاستعمار تشجّع محو الأمّية بلغاتها المحلّية التي كُتبت حديثا، واقتصار اللغة الأجنبية على جزء صغير من المجتمع يقلّل من استغلال قدرتها في الإنتاج والتجارة والإدارة والاندماج الاجتماعي، ومثل هذه اللغة تُساعد على إقامة حواجز اجتماعية ولا تساعد على تجاوزها.
كثير من الساسة عديمي الدراية والخبرة يعتقدون أنّ التنمية الناجحة مرتبطة برؤوس الأموال الغربية، ويغفلون عن الزيادات الربوية التي تنجرّ عن هذه القروض والتي ستفتك بالاقتصاد القومي فتكا ذريعا، وما انفكّ الغربيون إلى اليوم ملتزمين بأخلاقهم القديمة في السلب والنهب لأموال الفقراء في العالم المتخلّف، والذي يعود سبب تخلّفه في قسمه الأكبر إليهم، وذلك بالقروض الربوية التي أخنت على دول كثيرة، وبهذه الطريقة نفسها التي تسرق بها الدول الغربية الاستعمارية أموال الفقراء، تقوم أيضا باستنزاف رأسمالها العقلي من خلال الهجرة المكثّفة لعلمائها نحو الدول الصناعية التي اقترضت لغاتها لتدريس العلوم الحديثة بها، فالدول التي تستعمل اللغة الفرنسية في التعليم العالي والبحث العلمي يهاجر علماؤها إلى الدول الناطقة باللغة الفرنسية مثل فرنسا وبلجيكا وكيبك في كندا، أمّا الدول التي تقترض اللغة الكلزية فإنّ علماءها سيتوجّهون حين الهجرة إلى الدول المتقدّمة التي تستعمل هذه اللغة في البحوث العلمية مثل بريطانيا والولايات المتّحدة الأمريكية وغيرهما، ويكفي أن نعلم أنّ الأطباء الذين يعودون إلى أصول باكستانية وهندية في بريطانيا يمثّلون نسبة تصل إلى 30% من مجموع الأطباء البريطانيين، وأنّ الأطباء المغاربة في فرنسا كلّهم متخصّصون. إنّ الدول التي تلجأ إلى الاقتراض من الأموال الغربية ستسرق هذه الدول الغربية أموالها بالربا وستدفع الدول الفقيرة أكثر بكثير ممّا تأخذه منها، وكذلك حينما تقترض الدول الفقيرة لغات الدول الغربية فإنّ الغربيين سيسرقون عقولها التي أنفقت الأموال الطائلة في تعليمها وإنضاجها.
لقد بنت أوروبا مجدها الحاضر وتوسّعها العظيم وإحرازها الثروة والسلطة الكونية ما بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر الميلاديين من خلال استغلال آسيا وإفريقيا والأمريكيتين الجنوبية والشمالية اقتصاديا، وظهر مفهوم «تنمية التخلّف» بشكل أدق في تحليل ماركس للاستعمار، وهذا معناه أنّ التطوّر الأوروبي قد أعاق نمو اقتصاديات دول أخرى هي العالم الثالث اليوم، ويرجع تخلّف لغات العالم الثالث إلى حدّ كبير إلى الأسباب نفسها التي تخلّفت نتيجة لها المجتمعات التي تستعمل اللغات الأوروبية، ويرى اسبنسر (1985م) «أنّ إدخال اللغات الاستعمارية في المجتمعات الإفريقية قد جمّد الفرص أمام التنمية الوظيفية لكلّ اللغات الإفريقية تقريبا»، فاللغات تتكيّف حسب الاحتياجات المختلفة التي تتعرّض لها، وعملية التكيّف تحدث في العادة بشكل مستمرّ وسط عالم متغيِّر، وبقاء العربية خارج التفاعل الحضاري الحاصل اليوم في العالم أفقدها فرصة التكيّف والتطوّر، ويعود السبب في ذلك إلى أنّنا نحن العرب لا نجلّ لغتنا ولا نحترمها، والعربي الذي لا يتعصّب للغته ولا يُحافظ على الحديث بها ولا يسعى لتطويرها وتنميتها ونشرها، إنّما يهين نفسه ويحطّم ذاته، ويجعل من أمّته عرضة للاحتقار والاستعمار، كثيرون هم أولئك الذين لا يعرفون مقدار الضرر الذي ينجرّ عن استعمالهم للغة جلاّديهم في الماضي القريب، ولا يدركون مقدار الخزي والعار الذي يصبّونه على أنفسهم وعلى أمّتهم، لأنّ الأمم لا تحيا في الكرامة إلاّ إذا اعتزّت بنفسها ودينها ولغتها وتراثها وتاريخها، ولا يُمكن لأيّ أمّة أن تُنافس الأمم الأخرى ذات العراقة في التاريخ والحضارة إلاّ بما تملكه هي نفسها من هذه العراقة، وقديما قيل في الأمثال: «من هانت عليه نفسه فهي على غيره أهون».