معجم المصطلحات الكبير
اِنْزِياح لُغَوي
اللغة والأدب

خروج التعبير عن المألوف من الكلام ونسقه المثالي لغرض قَصَدَ إليه المتكلّم أو جاء عفو الخاطر، وبعبارة أبسط، هو الانحراف الذي يطرأ على الخطاب الاعتيادي حتّى يصير خطابا أدبيا أو شعريا. إنّ الانزياح هو أهمّ الظواهر التي يمتاز بها الأسلوب الأدبي، إذ يميّز اللغة الأدبية ويمنحها تفرّدها ويجعلها لغة خاصّة، تختلف عن اللغة المعيارية، والمراد بالمعيار في الانزياح اللغة العلمية العادية في قواعدها وتقاريرها، وهنا يجب أن ندرك أمرين، أوّلهما: حركة المعيار واختلافه أو تطوّر مفهومه من ثقافة إلى أخرى ومن زمن إلى زمن، ثانيهما: حركة الأساليب اللغوية وتغيّرها من عصر إلى آخر، ومن مكان إلى مكان، مثل ما نعرفه من موت الصور المجازية وتحوّلها من التعبير غير المباشر إلى التعبير المباشر، أي تحوّلها من المعنى الأدبي المتشظّي ذي الأبعاد، إلى المعنى العلمي الواحد ذي البعد المعجمي الثابت. مثال ذلك، إذا قال أحدهم: رَتَقت نعلي، وشربت قهوتي، فإنّ هذا كلام اعتيادي، والتعبير فيهما يقف عند حدود الدرجة صفر من القول، أمّا حينما يقول: أسمعه صوتا جميلا، فهذا مثال لمصطلح بصري طبّق تطبيقا منحرفا على السمع، أو يقول ما قال تعالى: «والليل إذا عسعس، والصبح إذا تنفّس»، فإنّنا نسجل هنا حدثا أسلوبيا، لأنّ السمات اللغوية التي تتضمّنها الأفعال عسعس، وتنفّس هي غير السمات التي تتضمّنها الأسماء الصبح والليل. يعرّف أحمد محمّد ويس الانزياح بقوله: «استعمال المبدع للغة (مفردات وتراكيب وصور) استعمالا يخرج بها عمّا هو معتاد ومألوف بحيث يحقّق المبدع ما ينبغي له أن يتّصف به من تفرّد وإبداع وقوّة جذب».

تحدّث الكثير من الباحثين عن أنواع الانزياح، حتّى أوصلها بعضهم إلى خمسة عشر انزياحا، وقد اختصرها الربيز: أحمد غالب الخرشة، في خمسة أنواع:

  • 1- الانزياحات الموضعية والانزياحات الشاملة، وهي التي تنتشر في النصّ كظواهر محلّية موضعية أو شاملة، فالانزياح الموضعي يؤثّر على جزء محدود من السياق، كالاستعارة التي يمكن أن توصف بأنّها انزياح موضعي عن اللغة الاعتيادية، أمّا الانزياح الشامل فيؤثّر على النص بأكمله، كمعدّلات التكرار الشديدة الارتفاع أو الانخفاض لوحدة نصّية معيّنة؛
  • 2- الانزياحات السلبية والانزياحات الإيجابية؛ وتتحدّد تبعا لعلاقتها بنظام القواعد اللغوية، وتتمثّل الانزياحات السلبية في تخصيص القاعدة العامّة واقتصارها على بعض الحالات، وتتمثّل الانزياحات الإيجابية في إضافة قيود معيّنة إلى ما هو قائم بالفعل، كإضافة القافية في الشعر؛
  • 3- الانزياحات الداخلية والانزياحات الخارجية، وهي التي تعتمد على العلاقة بين القاعدة والنصّ المراد تحليله، فالانزياحات الداخلية تظهر عندما تنفصل وحدة لغوية ذات انتشار محدود عن القاعدة المسيطرة على النصّ في جملته، وتظهر الانزياحات الخارجية عندما يختلف أسلوب النصّ عن القاعدة الموجودة في اللغة المدروسة؛
  • 4- الانزياحات الخطّية (السياقية)، والصوتية، والنحوية، والصرفية، والمعجمية، والدلالية، وذلك تبعا للمستوى اللغوي الذي تعتمد عليه؛
  • 5- الانزياحات التركيبية الاستبدالية، وذلك تبعا لتأثيرها على مبدأي الاختيار والتركيب في الوحدات اللغوية، فالانزياحات التركيبية تتصل بالسلسلة السياقية الخطّية للإشارات اللغوية عندما تخرج عن قواعد النظم والتركيب، مثل الاختلاف في ترتيب الكلمات. أمّا الانزياحات الاستبدالية فتخرج عن قواعد الاختيار للرموز اللغوية، مثل وضع المفرد موضع الجمع، أو الصفة مكان الموصوف، أو اللفظ الغريب بدل المألوف.

يُعتبر الانزياح أقوى الأركان التي قامت عليه الأسلوبية، حتّى عدّه بعض أهل الاختصاص هو كلّ شيء فيها، فكبار نقّاد الأدب من أمثال: سبيتزر، وجورج مونان، وتودروف، وجان كوهن، اتّخذوا من الانزياح في النص الأدبي أساسا للبحث في الخصائص الأسلوبية التي تتميّز بها النصوص، ويعود ذلك إلى أنّ الأسلوب من حيث هو طريقة الفرد في التعبير سيظلّ دائما مقترنا بالانزياح عن طرائق أخرى فردية أو جماعية أي أساليب الأدب واللغة، زيادة على ذلك، فإنّ الأسلوبية نفسها قد جعلت الانزياح منذ نشأتها عماد نظريتها، ويرى سبيتزر، أنّ الأسلوبية تحلّل استعمال العناصر التي تمدّنا بها اللغة، وأنّ ما يمكّن من كشف ذلك الاستعمال هو الانزياح الأسلوبي الفردي، وما ينتج عنه من انحراف عن الاستعمال الاعتيادي. وقد تعامل الأسلوبيون مع اللغة على أساس أنّها ذات مستويين، الأوّل: مستواها المثالي أو الاعتيادي، ويتجلّى في هيمنة الوظيفة الإبلاغية على أساليب الخطاب، والثاني: مستواها الإبداعي أو الفنّي الذي ينتهك الاستعمال المألوف للغة وصيغ الأساليب الجاهزة، بقصد شحن الخطاب بطاقات أسلوبية وجمالية تُحدِث تأثيرا خاصّا في المتلقّي.

إنّ الوظيفة الرئيسة التي اهتمّت بها الأسلوبية في الانزياح، هي عنصر المفاجأة، ومفهوم المفاجأة مرتبط بالمتلقّي، فهو الذي أولته الأسلوبية وغيرها من المدارس النقدية عناية خاصّة، بل أدخلته ضمن دائرة الإبداع. هناك فكرة صحيحة في الإعلام مرتبطة بالمتلقي، والتي تقول إنّ نسبة الإعلام تزداد بقدر ما تقلّ نسبة التوقّع، فقيمة الخبر الإعلامي تكون كبيرة إذا لم يكن للخبر توقّعات عن حدوثه من قبل، ويدخل في دائرة الابتذال والحشو إذا كان الخبر موجودا من قبل وتطوراته متوقعة بنسبة عالية. أمّا النظريات الحديثة فقد انتهت إلى أنّ الكتابة الفنّية أو الشعر لا يقصد أي منهما إلى الإعلام، إلاّ أنّ تأثيرهما يشبه تأثير الإعلام حيث يكون أكبر وأشدّ إذا انحرفا عمّا هو مألوف وانزاحا عمّا هو متوقّع. وقد أكّد هذه الفكرة ريفاتير Michel Riffaterre الذي جاء بعد جاكوبسون بقوله: «إنّ قيمة كلّ خصيصة أسلوبية تتناسب مع حدّة المفاجأة التي تحدثها تناسبا طرديا، بحيث (إنّها) كلمة كانت غير منتظرة كان وقعها على نفس المتلقي أعمق». ولهذا السبب نفسه وجدت قصائد الهَيْكو أيضا ذلك الرواج الكبير، وخرجت عن كونها شعرا محلّيا تقليديا مرتبطا بالبيئة اليابانية إلى العالمية، فقصيدة الهيكو تعبّر عن فكرة أو صورة أو شعور واحد، يُحقّق نوعا من المفاجأة الصغيرة، مثل ما نجده في قصيدة إيسّا، التي يقول فيها: «لا بدّ أن ليلَكِ، طويل وموحش، أيتها البراغيث» أو قصيدة باشو: «أيها العنكبوت، أأنت الذي يبكي؛ أم رياح الخريف؟». أعطى الفَوْقعيون فكرة المفاجأة كلّ بعد في الإبداع، ويقول بروتون في هذا الشأن: «يجدر البحث عن المفاجأة للمفاجأة نفسها بحثا غير مشروط». ثمّ إنّهم وجدو فيها غاية الحرّية، يقول بروتون: «إنّ الصورة وحدها، بما تحمله من مفاجآت غير متوقعة، هي التي تعطيني مدى الحرّية الممكن، وهذه الحرّية من الكمال بحيث تثير في الرعب».

 

تعليق

شاع مصطلح الانزياح بين الباحثين المعاصرين، نتيجة تأثّرهم بالدراسات النقدية الغربية الحديثة واطّلاعهم عليها، وقد اختلفت تسميات هذا المصطلح في النقد الغربي، واختلفت معه مقابلاته في العربية أيضا، حيث سُمّي بالعدول، والانحراف déviation، والخروج، والخرق، والابتعاد، والبعد، والتشويش، والتشويه، والمجاورة، والنشاز، والاتساع، والفارق، والجسارة اللغوية، والغرابة، والإخلال distorsion، والانحناء، والتجاوز abus، والشناعة scandale، إلخ. ويعتبر الانزياح، ومعه العدول والانحراف، المصطلحات الأكثر نفوذا ودورانا. يرد مصطلح العدول في كتب بلاغية ونقدية في معان كثيرة ليست بنقدية ولا أسلوبية، وهو في الأساس مصطلح بلاغي تُراثي، وقد اعترض الربيز عبد القادر الفاسي وهو محقّ في هذا الاعتراض على إعمال المصطلح التراثي مطلقا، من خلال دعوته الصريحة إلى الابتعاد عن استعمال المصطلح المتوفّر القديم في مقابل المصطلح الوافد، لأنّ توظيف المصطلح القديم لنقل مفاهيم جديدة، من شأنه أن يُفسد علينا تمثّل المفاهيم الواردة والمفاهيم المحلّية على السواء، ولا يمكن إعادة تعريف المصطلح القديم وتخصيصه إذا كان مُوظَّفا. أمّا الانحراف فله دلالة قوية بالجانب الأخلاقي، لذلك يعتبر مصطلح الانزياح هو الأوفق في الاستعمال، حيث يرد في كتب الأسلوبية في معنى فنّي محدّد، ممّا يعني أنّه مصطلح لا يحمل لبسا من أي نوع. وعلى هذا النحو تبني اللغة العربية منظومتها الاصطلاحية وتثبّتها، فكثرة المصطلح لا تضرّ العربية بل تفتح عليها روافد كثيرة لتختار منها الأصلح والأنسب والأجمل.

 

مترادف

انحراف

عدول

لغة كلزية

deviation
لغة فرنسية

écart
مراجع

  • أسلوبية الانزياح في النص القرآني. الربيز: أحمد غالب الخرشة. الأكاديميون للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1435، 2014م. عمان، الأردن.
  • الانزياح والدلالة. الربيز: نعيم الباقي. مجلّة الفيصل. العدد 226، ربيع الآخر، 1416، سبتمبر 1995م. المملكة العربية السعودية.
  • وظيفة الانزياح في منظور الدراسات الأسلوبية. أحمد محمّد ويس. علامات، الجزء 21، المجلّد 6، جمادى الأولى 1417، سبتمبر 1996م. مكناس، الرباط.