كان والد المختار الأمير أبو عبيد بن مسعود بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن عنزة بن عوف بن ثقيف قد أسلم في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم يره، فلهذا لم يذكره أكثر الناس في الصحابة، إنّما ذكره ابن الأثير في الغابة على قول ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية (الجزء الثامن). استعمله عمر بن الخطّاب رضي الله عنه على جيش كثيف، فغزا الفرس في العراق سنة ثلاث عشرة وإليه نُسبت وقعة جسر أبي عبيد على نهر دجلة، فقتل يومئذ شهيدا، وقُتل معه نحو من أربعة آلاف من المسلمين، وكان له من الولد صفية بنت أبي عبيد، وهي من الصالحات العابدات، تزوّجها عبد الله بن عمر بن الخطّاب، وكان لها محبّا ومكرما، وماتت في حياته، كما يقول بن كثير. أمّا أخوها المختار فقد نشأ في ثقيف فكان من كبرائها وذوي الرأي والفصاحة، والشجاعة، والدهاء، وقلّة الورع والدين أيضا.
كان في أوّل أمره عند عمّه نائب المدائن، وكان شديد البغض لعلي رضي الله عنه، فلمّا دخلها الحسن بن علي خذله أهل العراق، وهو سائر إلى الشام لقتال معاوية بعد مقتل أبيه، فلمّا أحسّ الحسن منهم الغدر فرّ منهم إلى المدائن في جيش قليل، فقال المختار لعمّه: لو أخذت الحسن فبعثته إلى معاوية لاتّخذتَ عنده اليد البيضاء أبدا، فقال له عمّه: بئس ما تأمرني به يا بن أخي، فما زالت الشيعة تبغضه حتّى كان أمر من أمر مسلم بن عقيل بن أبي طالب ما كان، وكان المختار من الأمراء بالكوفة، فجعل يقول: أما لانصرنّه، فبلغ ابن زياد ذلك فحبسه بعد ضربه مئة جلدة، فأرسل ابن عمر إلى يزيد بن معاوية يتشفّع فيه، فأرسل يزيد إلى ابن زياد، فأطلقه وسيّره إلى الحجاز في عباءة، فصار إلى ابن الزبير بمكّة حين أعلن نفسه خليفة سنة 64م، فقاتل معه حين حصره أهل الشام قتالا شديدا، فلمّا لم يجد تجاوبا منه، وبلغ المختار ما قال أهل الكوفة فيه من التخبيط، وكانت الكوفة يومئذ تموج بالفوضى بعد هزيمة التوّابين بقيادة سليمان بن صرد الخزاعي على يد عبيد الله بن زياد، سار إليهم وترك ابن الزبير، ويقال إنّه سأل ابن الزبير أن يكتب له كتابا إلى ابن مطيع نائب الكوفة ففعل، فسار إليها، وكان يُظهر مدح ابن الزبير في العلانية ويسبّه في السرّ، ويمدح محمّد بن الحنفية ويدعو له، وما زال حتّى استحوذ على الكوفة بطريق التشيّع وإظهار المطالبة بدم الحسين والأخذ بثأره.
لم يكن المختار صادقا في دعواه، فهو من الشخصيات التي تسعى إلى السلطة بأي ثمن، وقد هداه تفكيره إلى استعمال مقتل الحسين ذريعة للوصول إلى مطلبه، ووافق أن كان الشيعة يفتقرون إلى الزعامة بعد مقتل سليمان بن صرد الخزاعي، فلمّا وجدوا المختار التفّوا حوله وأسلموا له القيادة، وقد أشار الدينوري بشكل صريح إلى أنّ أتباع المختار كانوا من العجم. ثمّ استحوذ على الكوفة وأخرج عامل ابن الزبير منها، واستقرّ له الملك بها، ثمّ كتب إلى ابن الزبير يعتذر إليه ويخبره أنّ ابن مطيع كان مداهنا لبني أميّة، وقد خرج من الكوفة وأنا ومن بها في طاعتك، فصدّقه ابن الزبير، لأنّه كان يدعو إليه على المنبر يوم الجمعة على رؤوس الناس، ويظهر طاعته. ثمّ شرع في تتبّع قتلة الحسين ومن شهد الوقعة بكربلاء من ناحية ابن زياد، فقتل منهم خلقا كثيرا، وظفر برؤوس كبار منهم كعمر بن سعد بن أبي وقّاص، أمير الجيش الذي قتل الحسين وشمر بن ذي الجوشن أمير الألف الذين تولّوا قتل الحسين، وسنان بن أبي أنس، وخولى بن يزيد الأصبحي، وخلق غير هؤلاء. ازداد نفوذ المختار بعد أن حالفه التوفيق فانتصر قائده إبراهيم بن الأشتر في عشرين ألفا على جيش أموي، وقتل قائده عبيد الله بن زياد في معركة عند نهر الخازر بالقرب من الموصل سنة 67، وكان ابن زياد حين التقاه في جيش أعظم من جيشه، وكانوا ثمانين ألفا، وقيل ستّين ألفا، فقتله ابن الأشتر وكسر جيشه، واحتاز ما في معسكره، ثمّ بعث برأس ابن زياد ورؤوس أصحابه مع البشارة إلى المختار، ففرح بذلك فرحا شديدا، ثمّ إنّ المختار بعث برأس ابن زياد ورأس حصين بن نمير ومن معهما إلى ابن الزبير بمكّة، وقد تدعّم المختار بمقتل ابن زياد، وزاد من ثقة الشيعة به ووقوفهم خلفه، فاستفحل أمره، وعظم شأنه، واتّسع نفوذه وقامت له دولة في الكوفة واتّسعت رقعتها حتّى شملت معظم العراق، وظنّ أنّه لم يبق له عدو ولا منازع.
إلاّ أن المختار لم ينعم بدولته طويلا، فقد أزعج صعود أمره آل الزبير في مكّة، وعبد الملك بن مروان في دمشق، وظهر لابن الزبير خداعه ومكره وسوء مذهبه، فبعث أخاه مصعبا أميرا على العراق، فسار إلى البصرة فجمع العساكر، فما تمّ سرور المختار حتّى سار إليه مصعب بن الزبير من البصرة في جيش هائل فقتله واحتزّ رأسه وأمر بصلب كفّه على باب المسجد. بعث مصعب برأس المختار مع رجل من الشرط على البريد، إلى أخيه عبد الله بن الزبير، فوصل مكّة بعد العشاء فوجد عبد الله يتنفّل، فما زال يصلّي حتّى أسحر ولم يلتفت إلى البريد الذي جاء بالرأس، فلمّا كان قريب الفجر قال: ما جاء بك؟ فألقى إليه الكتاب فقرأه، فقال: يا أمير المؤمنين معي الرأس. فقال ألقه على باب المسجد، فألقاه ثمّ جاء فقال: جائزتي يا أمير المؤمنين، فقال: جائزتك الرأس الذي جئت به تأخذه معك إلى العراق. ثمّ زالت دولة المختار كأن لم تكن، وكذلك سائر الدول، وفرح المسلمون بزوالها، وذلك لأنّ الرجل لم يكن صادقا في نفسه، بل كان كذّابا يزعم أن جبريل عليه السلام يتنزّل عليه، وقد اتّخذ كرسيا يستنصر به تشبيها بتابوت بني إسرائيل، وأظهر غير ذلك من الادّعاءات والسفاهات!