معجم المصطلحات الكبير
تَوْرَاة
الأديان

لقرون عديدة؛ عَدَّ قُرّاء السفريل العبري، –كأمر مفروغ منه– أنّ كتب السفريل كانت وحيا مقدّسا، وتاريخا دقيقا بالوقت نفسه، أوحى الله بها مباشرة إلى عدد كبير واسع من الحكماء، والأنبياء، والكهنة من بني إسرائيل. افترضت المراجع الدينية الرسمية، سواء اليهودية، أو المسيحية -بشكل طبيعي- بأنّ كتب موسى الخمسة إنّما أنزلت عليه، وأنّه قام بكتابتها بنفسه، وذلك قُبيل موته مباشرة، وهو جبل نيبو، كما يروي كتاب سفر التثنية. أمّا أسفار يشوع، والقضاة، وصموئيل، فعُدَّت جميعا سجلاّت مقدّسة، احتفظ بها النبي الجليل صموئيل في شيلوه shiloh، وعدّ سفر الملوك (الأوّل والثاني) مُدوَّنين بقلم النبي إرميا، وعلى المنوال نفسه؛ ساد الاعتقاد بأنّ الملك داود هو مؤلّف المزامير، وأنّ الملك سليمان هو مؤلِّف سفر الأمثال، وسفر نشيد سليمان. ولكن؛ مع بزوغ فجر العصر الحديث، في القرن السابع عشر، وجد العلماء الذين كرّسوا أنفسهم للدراسة الأدبية واللغوية المفصّلة للسفريل أنّ الأمر ليس بتلك البساطة أبدا. لقد أبرزت الحجج القوّية للعقل والمنطق عند تطبيقها على نصوص السفريل، تساؤلات مثيرة ومزعجة جدّا حول الثقة التاريخية للسفريل العبري.

كان السؤال الأوّل: هل من الممكن أن يكون موسى هو حقّا مؤلِّف كلِّ الأسفار الخمسة الأولى من السفريل العبري المعروفة بكتب موسى؟ كيف ذلك، والسِّفْر الأخير منها أي سفر التثنية يصف بتفصيل دقيق ظروف موت موسى، ووقت وفاته بالضبط. وليس هذا فحسب، بل سرعان ما ظهرت تناقضات أخرى أيضا: النصّ التوراتي مليء بالتعليقات الجانبية الأدبية، التي توضّح الأسماء القديمة لبعض الأماكن، ويلاحَظ كثيرا بأنّ أدلّة الأحداث التوراتية المشهورة ما زالت مرئية إلى يومنا هذا. لقد أقنعت هذه العوامل بعضَ علماء القرن السابع عشر أنّ أسفار السفريل العبري الخمسة الأولى على الأقلّ قد كُتبتْ، ثم وُسِّعتْ، وزيّنت لاحقا، من لدن محرّرين مجهولين، ومراجعين متعدّدين، على مدى عدّة قرون.

مع نهاية القرن الثامن عشر، وبدرجة أكبر في القرن التاسع عشر، بدأ العديد من العلماء الناقدين المتخصّصين بالسفريل يشكّون في أن يكون لموسى أي يد على الإطلاق في كتابة أسفار التوراة، واتّجه عديد منهم إلى الاعتقاد بأنّ التوراة كانت حصرا من عمل كتّاب تالين. وقد أشار هؤلاء العلماء إلى ما يبدو أنّه نُسَخ مختلفة لنفس القصص ضمن الأسفار الخمسة للتوراة، فاقترحوا بأنّ النصّ التوراتي كان نتاجا لعدّة أيدي يسهل التمييز بينها، فأي قراءة حذرة لسفر التكوين على سبيل المثال تكشف عن نُسختين متعارضتين لقصّة الخَلْق (1\1-2\ 3و2\4-25)، فهناك سلسلتا نَسَب مختلفتان جدّا لنسل آدم (4\17-26 و5\1-28)، وثمّة قصّتا طوفان منفصلتان، ثمّ مرتّبتان ثانية مع بعضهما (6\5-9\17)، بالإضافة إلى أنّ هناك العشرات من نماذج التكرار المضاعف، وأحيانا المثلّث للأحداث نفسها في قَصَص رحلات الآباء، والخروج الجماعي من مصر، وإنزال الشريعة.

على الرغم من ذلك؛ كان هناك ترتيب واضح في هذا الذي بدا أنّه تكرار فوضوي. فقد بدأ يلاحظ منذ وقت مبكِّر في القرن التاسع عشر (كما شرح ذلك بوضوح العالم التوراتي الأمريكي ريتشارد إليوت فريدمان Richard Elliott Friedman في كتابه من كتب السفريل؟) بأنّ التكرار المضاعف الذي يظهر لأوّل وهلة في سفر التكوين، وسفر الخروج، وسفر العدد، لم يكن مجرّد روايات مختلفة مذكورة بنحو اعتباطي، أو تكرار ثانٍ للقَصَص نفسه. لقد أبقت كلّ رواية بعض الخصائص، التي يُمكن تمييزها بسهولة، بواسطة الاصطلاحات terminolgy والتركيز الإراضي (الجغرافي) المعيّن، لا سيّما وبشكل واضح جدّا تميّز الأسماء المختلفة المستعملة عند وصف إله إسرائيل. نجد مجموعة من الروايات تستعمل أثناء روايتها التاريخية الاسم الرباعي يَهْوَه بشكل مستمرّ (والذي يَفترض أكثرُ العلماء أنّه لفظ بكسر الواو؛ أي يَهْوِه Yahweh)، وتبدو مهتمّة أكثر بكثير بقبيلة يهوذا ودولتها الجنوبية في رواياتها المختلفة، في حين تستعمل المجموعة الأخرى من القصص الاسم إيلوهيم Elohim، أو إيل في حديثها عن الله، وتبدو مهتمَّة بشكل خاصٍّ ورئيسٍ بالقبائل والأراضي التي تقع في شمال البلاد؛ مثل قبائل أفرايم، ومَنَسَّى Manasseh، وبنيامين. وبمرور الوقت، أصبح واضحا أنّ التكرار اُشتقّ من مصدرين متميِّزين كُتِبا في أوقات مختلفة، وأماكن مختلفة. وقد أعطى العُلماءُ الاسم «جي» J للمصدر اليهوي Yahwist (تُهجّى Jahvist من الألمانية)، والاسم «إي» E للمصدر الإيلوهيمي Elohist، لذينك المصدرين على الترتيب.

أقنعت الاستعمالات المتميِّزة للمصطلحات الإراضية والرموز الدينية والأدوار التي كانت القبائل المختلفة تلعبها في المصدرَين العلماءَ أنّ النصّ «جي» كُتب في أورشليم (القدس)، ومثَّل وُجهة نظر الحكم المَلَكي المتَّحد، أو مملكة يهوذا، وافترضوا أنّ كتابته تمّت مباشرة بعد عهد الملك سليمان (970-930 ق.م). هذا؛ في حين بدا سفر التثنية في رسالته المتميّزة وأسلوبه الخاصّ وثيقة مستقلّة سُمّيت «دي» D، ويوجد بين أقسام التوراة التي يمكن أن تنسب إلى «جي» أو «أي» أو «دي» عدد كبير من الفصول التي تتعامل مع الأمور الطَّقْسية. اتّجه العلماء مع الزمن إلى اعتبار هذه الأجزاء اقتباسا من مصدر طويل دُعي «بي» P أو المصدر الكهنوتي priestly الذي يركّز باهتمام خاصّ على أمور الطهارة والعبادات والطقوس، وأحكام تقديم القرابين. بكلمة أخرى؛ اتّجه العلماء بشكل تدريجي إلى النتيجة الحتمية القائلة بأنّ الكتب الخمسة الأولى للسفريل العبري كما نعرفها الآن هي حصيلة عَمَلية تحريرية معقّدة ثم خلالها تجميع الوثائق المصدرية الرئيسة الأربعة «جي»، و«إي»، و«بي»، و«دي» ودمجها بشكل ماهر، وتمّ الربط بينها بشكل حاذق من قبل النسّاخ أو المنقّحين، الذين ظهرت آثار تنقيحاتهم الأدبية وجُمَل ربطهم (دعاها بعض علماء المقاطع «آر» R) بشكل جُمل انتقالية وتعليقات جانبية تحريرية، وقد حدثت آخر هذه التنقيحات في فترة ما بعد النفي.

تفاوتت آراء العلماء في العقود القليلة الماضية حول تواريخ ومؤلّفي هذه المصادر الفردية اختلافا بيّنا وكبيرا، فبينما رأى بعضهم أنّ تلك النصوص أُعدّت وحُرّرت خلال عهد الحكم الملكي المتّحد ومملكتي يهوذا وإسرائيل (1000-586 ق.م)، أصرّ آخرون على أنّها تأليفات متأخّرة، تمّ جمعها وتحريرها من قبل الكهنة وكتّاب أثناء النفي البابلي، والعودة منه (في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد)، أو حتّى في وقت متأخّر أكثر يصل إلى الفترة الهيلِّينية (القرون من الرابع إلى الثاني ق.م). وأيّا كان الأمر، فقد أصبح الكلّ يُجمع على أنّ الأسفار الخمسة (التوراة) ليست تأليفا فرديا واحدا (كتلة واحدة)، بل تجميع وترقيع لمصادر مختلفة، كلّ منها كُتبَ تحت ظروف تاريخية مختلفة، لإبداء وُجهات نظرٍ دينية أو سياسية مختلفة.

بدأت الأسفار الأربعة الأولى من السفريل العبري (التكوين، الخروج، اللاويين، العدد) نتاج دمج بارع بين المصادر «جي» J، و«إي» E، و«بي» P، أي المصدر اليَهْوي والإلوهيمي والكهنوتي، في حين كان وضع السفر الخامس أي سفر التثنية مختلفا تماما؛ لأنّه حمل مصطلحات مميّزة لا يشاركه فيها أي من المصادر الأخرى، كما تضمّن إدانة شديدة لعبادة الآلهة الأخرى، وطرح تصوّر جديدا لله، ككائن متعالٍ جدّا، ونصّ على التحريم المطلق لتقديم أي قرابين لإله إسرائيل، في أي مكان سوى الهيكل في أورشليم. وقد اعترف العلماء منذ عهد بعيد بارتباط محتمل بين هذا السفر، وكتاب غامض آخر، هو: «سفر الشريعة»، الذي اكتشفه الكاهن الأكبر «حلقياه» أثناء إعادة بناء الهيكل في حكم الملك يوشِيّا Josiah سنة 633 ق.م وقد أصبحت هذه الوثيقة كما يروي سفر الملوك الثاني 22\8- 23\24 مصدر إلهام لإصلاح ديني ذي شدّة لا نظير لها من قبل.

إنّ تأثير سفر التثنية على الرسالة النهائية للسفريل العبري أبعد بكثير من أحكامه القانونية الصارمة. إنّ القصّة التاريخية المترابطة التي ترويها الأسفار التي تلي أسفار التوراة الخمسة أي أسفار يشوع، والقضاة، وصموئيل 1و2، والملوك 1و2 ذات صلة وثيقة جدّا بسفر التثنية لغويا ولاهوتيا، إلى حدِّ أنّ أصبح العلماء منذ منتصف أربعينيات القرن الماضي يطلقون عليها عبارة التاريخ التثنوي deuteronomistic history، ويُعدّ هذا العمل الأدبي العظيم العمل التاريخي الثاني الذي يقصّ تاريخ إسرائيل في السفريل العبري، حيث تواصل تلك الأسفار قصّة مصير شعب إسرائيل من غزوه للأرض الموعودة وحتّى المنفى البابلي، وتعبِّر عن عقيدة حركة دينية جديدة برزت بين بني إسرائيل في وقت متأخّر نسبيا. وقد حُرِّر هذا العمل أكثر من مرّة أيضا. ويرى بعض العلماء بأنّ هذا التاريخ تمّ تأليفه أثناء فترة النفي في محاولة للمحافظة على تاريخ، وثقافة، وحضارة، وهوّية الأمّة المقهورة؛ بعد كارثة دمار أورشليم، في حين يقترح علماء آخرون بأنّه –بشكل رئيس– تمّت كتابة التاريخ التثنوي في أيّام الملك يوشيّا لخدمة عقيدته الدينية، وطموحاته الإقليمية، وبأنّه أُنهي وحُرِّر بعد عقود قليلة من المنفى.

أمّا سفرا أخبار الأيّام الأوّل والثاني –اللذان يشكّلان التأليف التاريخي الكبير الثالث في السفريل العبري الذي يعالج تاريخ شعب إسرائيل قُبيل عهد النفي– فقد وُضعا في القرن الخامس أو الرابع ق.م؛ أي بعد عدّة قرون من الأحداث التي يصفها. ويميل المنظور التاريخي للسفرين بشدّة لمصلحة الادّعاءات التاريخية والسياسية لسلالة داود ولأورشليم؛ ويهملان الشمال كلّيا تقريبا. يعكس سفرا أخبار الأيّام –بأساليب عديدة، بشكل فردي– عقيدة وحاجات أورشليم المعبد أو الهيكل الثاني؛ حيث يُعيد تشكيل الجزء الأكبر من القصّة التاريخية، التي كانت مدوَّنة ومكتوبة من قبل. (التوراة اليهودية مكشوفة على حقيقتها. إسرائيل فِنْكلْشتاين، ونيل إشر سيلبرمان)

لغة كلزية

torah
لغة فرنسية

torah
مراجع

  • التوراة اليهودية مكشوفة على حقيقتها. الربيز: إسرائيل فِنْكلْشتاين، ونيل إشر سيلبرمان. ترجمة: سعد رستم. صفحات للدراسات والنشر، 2005م. دمشق، سوريا.