من مقدمة: مذكرات أسير الداي كاثكارت، قنصل أمريكا في المغرب.
قد يتساءل القارئ المتتبّع لنشاط هذا الكتاب: لماذا يترجم ثلاثة كتب تاريخية في موضوع العلاقات الجزائرية الأمريكية؟ وجوابي، هو أنّني شرعت منذ سنتين في أعمال البحث في موضوع أردت أن أعطيه عنوان الجزائر في عهد الدايات، ولكنّني لم أكد ألمس صلب الموضوع حتّى أدركت أنّني لن أتمكّن من إيفائه حقّه من الدرس على أساس المصادر والمراجع المتوفّرة لدينا في الوقت الحاضر. فالدايات لم يعنوا بتنمية الأرشيفات والمحافظة عليها، وما بقي من الوثائق من عهد الإدارة التركية إنّما يتّصل بالأوقاف والمعاملات الشخصية مثل الزواج والميراث الخ..، وعبثا يبحث الباحث من بينهما عن وثيقة تكتسي طابعا سياسيا أو اقتصاديا.
والوثائق الخطّية الموجودة في الخارج والتي تتّصل بعلاقات البلدان الأوروبية، وكلّ بلد على انفراد، بالجزائر، لم تستكشف بعد، والقليل ممّا اُكتشف منها لم يُصنّف، وسيتطلّب استغلالها جهودا ونفقات تفوق طاقة الباحث الفرد، وأمّا المذكّرات والمنشورات التي صدرت في الخارج في الماضي، فإنّه لا يتوفّر منها لدينا إلاّ بعض ما كتب باللغة الفرنسية. ونظرا لأنّ بريطانيا والولايات المتّحدة (بعد الاستقلال) كانت كلتاهما ترتبط بعلاقات معقّدة مع الجزائر، تتداول فيها فترات الحرب والسلم، فإنّ الباحث في هذه الفترة لا يمكنه أن يستغني عن أرشيفات تلك البلاد، دون أن يأمل في أن يصيب عمله حظّا ولو ضئيلا من التوفيق. ولكن علاقات البلدان الأنجلوسكسونية بالمغرب، على الرغم ممّا تكشّف عنه من الثراء والتنوّع والطرافة في بعض جوانبها، لم تستلفت حتّى الآن أنظار الباحثين المغاربة. والمرجّح أنّ هذا الموضوع سوف يظلّ بكرا ويحتفظ بكلّ أسراره مدّة من الزمن.
وإلى جانب هذه الأرشيفات توجد دراسات ومذكّرات وسير لبعض الشخصيات التاريخية التي لعبت دورا في العلاقات مع المغرب. وكلّها تلقي أضواء على الموضوع. وهكذا تراءى لي أنّ الخدمة الجدّية التي يمكنني أنّ أقدّمها لتاريخ بلدنا في المرحلة الحالية، ليست كتابة تاريخ الدايات على أساس ما يتيسّر من المراجع، بل العمل على توفير ما يمكن من المراجع الإنجليزية والأمريكية باللغة العربية، حتّى تكون قاعدة يستند عليها البحث التاريخي في المستقبل. والكتاب الذي يسعدني أن أقدّمه للقارئ في هذا السفر، وثيقة سيُتاح للباحث المهتمّ أن يقوّمها بنفسه، وأمّا قيمة الكتاب في نظري، فهي بالغة الأهمّية، بما يقدّمه من المعلومات وأكثرها ممّا يصفه وصف شاهد عيان للأحداث. وإنّه ليكفي للتأكّد من ذلك أن نعرف أنّه المرجع الأوّل الذي كُتب في موضوع العلاقات المغربية الأمريكية. وتمتاز هذه الوثيقة عن غيرها من الكتب والدراسات التي وضعت بعدها من حيث إنّها يوميات تعكس انطباعات حيّة وأحداثا وقعت في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، سجّلها كاتبها باليوم وأحيانا بساعة وقوعها.
ولقد شاء حسن الحظ أن يكون صاحب هذه المذكّرات شخصا بعيدا عن التأثّر بالأهواء والعواطف الشخصية وأن يتّسم سرده -وجميع القرائن تدلّ على ذلك- بدرجة عالية من النزاهة والأمانة. بل إنّ التزام الكاتب بالأمانة والموضوعية بلغ به حدّا دخل معه في نظامنا المنطقي الذي يقوم على السلب والنهب في عرض البحار، وأصبح يمدّ الداي بالحجج لماذا كان من الطبيعي أن يفرض على الدول الأوروبية دفع الضرائب في مقابل السماح لسفنها بنقل البضائع والتجارة في البحر الأبيض. وهذا المنطق هو الذي جعل الرجل لا يلوم الجزائر التي أسرته ووضعت في رجليه قيود الحديد وسخّرته للأشغال الشاقّة، بل ينحي باللائمة على حكومة بلده التي لم تهتمّ بدفع فديته وهو وطني مناضل شارك في الثورة لتحرير وطنه. ونحن، طبعا نتوقّع من رجل سُلبت حرّيته وعاش في بلدنا في قيد العبودية ما يقرب من احدى عشرة سنة، وعرف عيوبنا ونواحي الضعف فينا، وأن يصطبغ ما يكتبه عنّا بشعور المرارة والكراهية والنقد لمؤسّساتنا ولتقاليدنا، بل أيضا لديننا الذي طالما تعرّض هو لألوان من الألم والإهانة باسمه، باعتباره مسيحيا. وهذا النهج تعوّدناه من الأوروبيين الذين كتبوا عن بلدنا بمختلف صفاتهم في تلك الفترة. ولكن هذه ليست حالة الأسير كاثكارت.
فإنّ هذا الرجل الذي تحمّل وطأة العبودية بشجاعة وعزّة نفس نادرة، لم يسمح لآلامه الجسمية والنفسية أن تؤثّر على طريقة تفكيره وملاحظته، ولم يشأ أن يضفي على الحقائق الموضوعية أو على مشاهداته الشخصية لونا يعكس شعوره الشخصي نحوها. فهذا الرجل الذي أهين واضطهد كثيرا لأنّه فضّل الاحتفاظ بعقيدته المسيحية، ورفض كلّ إغراء له من الداي لاعتناق الإسلام، يحترم مع ذلك الدين الإسلامي والقرآن الذي قرأ ترجمته الإنجليزية، ويرفع من شأن نبي الإسلام الذي يعتبره من أكبر مشرّعي العالم، بقدر ما يحترم عوائدنا وتقاليدنا التي نعرف كلّنا أنّها لم تكن دائما مع الأسف، من النوع الرفيع. وذكاء كاثكارت وحصافته التي اكتشفها قادة الثورة الأمريكية وأسندوا إليه من أجلها مناصب قنصلية رفيعة فيما بعد، في المغرب وفي غيره من البلدان، ميزة أخرى في هذه الشخصية تزيد من قيمة الصفات الأخلاقية النادرة التي يتّسم بها، مثل الصدق والوفاء والوطنية، وتبرزه في ثوب رجل جدير بكلّ احترامنا وثقتنا. والشيء الذي يجب أن يعرفه القارئ منذ الآن، هو أنّ كاثكارت -على عكس الكثيرين من كتّاب المذكّرات الذين يحاولون تبرير أعمالهم أو يلقون على أنفسهم أكاليل الغار- لم يسجّل يومياته لتُنشر ولكي يعرف مواطنوه ما قدّمه من خدمات لوطنه ومن مساعدات لزملائه المنكوبين في الأسر، ويستفيد من ذلك مالا ومجدا. كلا! فإنّ كاثكارت لم ينشر مذكراته في حياته، وإنّما تولّت نشرها ابنته، بعد وفاته بنحو نصف قرن من الزمن. والمساهمة التاريخية التي تمثّل المساهمة العلمية التي يقدّمها هذا الكتاب، يمكن تصنيفها على (ستّة) مستويات، وأقدّم ملخّصها على الترتيب التالي، حسب أهمّيتها:
1- العلاقات الجزائرية الأمريكية: إنّ مذكّرات كاثكارت هي المرجع الأوّل والوحيد في هذا الباب في الربع الأخير من القرن الثامن عشر (وهذا التقرير لا يشمل المراسلات المتبادلة بين القناصل ووزارة الخارجية الأمريكية). وذلك لأنّ كاثكارت هو الذي تولّى المفاوضات مع الداي في مختلف مراحلها لعقد المعاهدة الأولى، وقد استخلص منه ترضيات معتبرة، مستغلا في ذلك معرفته بنفسية الداي وبهيكل العلاقات الخارجية الجزائرية بصفة عامّة، بحيث يمكن القول، بأنّ السفير «دونالد صن» الذي أُرْسل في هذه المهمّة والذي كان مستوى ذكائه وبراعته لا يفوق، إن لم نقل، عن مستوى سلفه «جون لامب»، لم يقم بدور أكبر من توقيع المعاهدة التي أعدّها له كاثكارت.
2- علاقات الجزائر بالدول الأوروبية: يصف كاثكارت هذه العلاقات بكلّ ما يتخلّلها من التنافس والتطاحن من أجل المصالح السياسية والتجارية أو من أجل الحصول على الحظوة لدى الجزائر، بين الدول الأوروبية، وصفا يتّسم بالأصالة. والفصل الذي خصّصه لوصف الشؤون البريطانية في الجزائر، على الرغم من إيجازه، أعتبره ذا قيمة كبيرة، من حيث إنّه يمثّل ثمرة اتّصالات ومبادلات شخصية ومعلومات يستقيها المؤلّف من الداي حسن مباشرة، أو من بعض قناصل الدول الأوروبية. وهو بالتأكيد عمل يكمل أعمال الذين عالجوا العلاقات الجزائرية البريطانية في فترة لاحقة، مثل القنصل البريطاني في الجزائر «بلاي فير».
3- وصف المؤسّسات والمنشآت العمومية: ترك لنا كاثكارت وصفا دقيقا لجميع المؤسّسات العمومية التي كانت موجودة في الجزائر في وقته، فيحدّثنا بصفته شاهد عِيان، عن المدارس والمساجد والسجون الخ.. والفصل الذي خصّصه لوصف قصر الداي من الداخل في عهد حسين، يمكن أن يُعتبر وثيقة لا نظير لها في هذا الباب، تعرّفنا بمختلف أجنحة القصر ودهاليزه ومرافقه، وأسلوبه المعماري وزخارفه، كما تفيدنا بالزيادات التي أُدخلت عليه لتوسيعه في عصر الداي نفسه.
4- الحالة الاجتماعية: لم يتح لكاثكارت، وهو عبد لا يُسمح له بالخروج إلاّ في موسم الأعياد، أن يختلط بالشعب الجزائري، وهذا من سوء الحظّ، لأنّه لو تعرّض للحياة اليومية في الأوساط العربية، وخرج من نطاق الموظّفين الأتراك الذي كان محصورا فيه، لقدّم لنا، من دون شكّ ثروة طائلة من التفاصيل الحيّة. على أنّ بعض الإشارات والأحاديث العابرة التي سجّلها في مذكّراته، تؤكّد لنا ما نعرفه من أنّ الشعب كان يعاني من الإهمال والإرهاق بالضرائب والظلم والجوع والأمراض، تحت نير الحكم التركي. على أنّ وصفه لنظام السجون في أواخر القرن الثامن عشر، يمكن أن يُعتبر وثيقة فريدة، سيجد فيه الباحث تفاصيل دقيقة وشاملة بشأن تشغيل الأسرى وطعامهم ونومهم، والرقابة والإدارة الخ.
5- الانطباعات الشخصية: سجّل كاثكارت كثيرا من الانطباعات التي علقت بذهنه من خلال اتّصالاته ومعاملاته مع عدد من الشخصيات السياسية والإدارية الخ. ومن أهمّ الشخصيات التي وصفها وأعطى لنا ملامحها العامّة، نذكر «سكجولدر براند» قنصل السويد، والقنصل الأمريكي «أوبران»، وكلاهما كان صديقا حميما له، والأب جوزيف (أحد قساوسة بعثة الرحمة الفرنسية) وقنصل بريطانيا، «لوجي» ولكن مخالطته الطويلة للداي حسن (الذي كان مدير مكتبه)، وإلى حدّ أقل للسفير الأمريكي «دونالد صن» الذي وقّع أوّل معاهدة جزائرية أمريكية، تجعل من مذكّرات كاثكارت مرجعا لا غنى عنه للباحث في سير هذه الشخصيات. وكذلك تُقدّم لنا هذه المذكّرات صورة عامّة لدور اليهود في قصر الداي، وبصفة خاصّة لدور «كوهين بكري» الذي كان موظّفا مترجما في قصر الداي، قبل أن يقيم «امبراطورية القمح» التي نعرفها، في أوائل القرن التاسع عشر، والذي كان من الأدوات الأساسية التي جلبت ويلات الاستعمار الفرنسي على الجزائر.