هو وضع يتجرّد فيه الإنسان من حرّيته ومن كلّ حقوقه المدنية ويصير ملكا لغيره، فلا يُباح له إجراء أي تعاقد، أو تحمّل التزام، أو تملّك عقّار أو منقول، ويجعله هو نفسه من ممتلكات سيّده يبيعه كما اشتراه، ويكون سبب هذا الاسترقاق.
- 1- الأسر في الحرب؛
- 2- الخطف؛
- 3- القانون: كارتكاب بعض الجرائم المُخْطِرة، مثل القتل والسرقة والزنا، فكان يُحكم فيها على مرتكبيها بالاسترقاق، أو عجز المدين عن سداد دَيْنِه، فيُسترقّ الشخص لدائنه، أو بسبب سلطة الوالد على أولاده، فيُباح له أن يبيعهم، أو سلطة الشخص على نفسه، فكان يُباح للمُعْوِز أن يتنازل عن حرّيته مقابل ثمن معيّن يأخذه، أو يكون ولدا لأبوين رقيقين، أو تكون أمّه جاريةً، فيولد الشخص مملوكا مُسترَقّا وإن كان أبوه حرّا.
ظهرت دول الرِقّ منذ عهود قديمة، وظهر نظام الرقّ معها، فقد شكّل الرقيق أدنى الطبقات الاجتماعية في عهد الفراعنة والبابليين والفرس، كسائر المجتمعات القديمة، على الرغم من الجهود المضنية التي بذلتها هذه الطبقة المسحوقة في رفع بناء الأهرام وتشييد صروح بابل وبناء سور الصين العظيم وسدّ مأرب. تكوّن هذا النظام منذ القرن الثامن قبل الميلاد في اليونان، وفي القرن السادس قبل الميلاد أعاد الرومان فتح ملفّ العبودية لأسوأ حالاته. ولمّا جاء الإسلام حرّم جميع روافد الرقّ، ماعدا رافد واحد، هو: رِقّ الوراثة، واستثنى من رقّ الوراثة أولاد الجواري من مواليهنّ، أمّا رقّ الحرب فلم يقرّه الإسلام سواء نشأ من الحرب الأهلية والحرب غير المشروعة، أو من الحرب الدفاعية المشروعة، إلاّ أنّ المسلمين في تاريخهم الطويل لم يطبّقوا هذه الأحكام. ولاعتبارات متعلّقة بمبدأ المعاملة بالمثل اُستعبد الأسير، وأصبحت الأسيرة جارية وسلعة تباع وتشترى لأغراض مماثلة لما كان عليه الأمر في العصور الجاهلية. كما نشأ الرقّ في أراضي أمريكا الوسطى والجنوبية قبل الهجمة الأوروبية بزهاء قرنين، أمّا أروبا في نهظتها الحديثة فقد مارست نظام الرقّ على نطاق العالم بأسره، منذ أن انطلقت في اكتشافاتها الأولى في البحار والمحيطات.
يولد الناس أحرارا بموجب القانون الطبيعي، إلاّ أنّ العبودية كانت عرفا شائعا وممارسة طبيعية بين جميع الأمم، وقد وَضعت كلّ دولة قوانينها الخاصّة بها لتنظيم الاسترقاق. في الحروب القديمة كان للمنتصر الحقّ في فتح المدن المهزومة للسلب والنهب والخطف، أو استعباد السكّان المهزومين، أمّا إذا تمّ التوصّل إلى تسوية من خلال مفاوضات أو استسلام رسمي، كان الناس عادة في منأى عن عنف الاستعباد. تعتبر الحرب من أهمّ أسباب الاسترقاق، فالكثير من أسواق النخاسة قديما كانت هي المورد الأوّل الذي تحصل منه على العبيد، حيث يصبح الأسرى غنيمة حرب ويُباعون عبيدا للتجّار، وقد سجّل أحد ضبّاط جيش «أحمس» في مصر القديمة مذكّراته عن حرب الهكسوس على جدران مقبرته، فقال: «لقد سقطت أواريس وأسرت من هناك رجلا وثلاث نساء.. أعطانيهم جلالته أرقّاء، وحاصر جلالته شاروهين ثلاث سنوات، ثمّ استولى عليها، وأسرت هناك امرأتين ورجلا، ومنحني الملك ذهب الشجاعة إلى جانب الأسرى كعبيد.. وحين حارب المتمرّدين فقد أبادهم تماما، وأعطاني ثلاثة عبيد». خلال الحروب الرومانية كان النخّاسون يلازمون الجيوش للحصول على الأسرى بأبخس الأثمان، فمنذ العصر الملكي في روما إلى العصر العاهِلي (الإمبراطوري) كانت حروب الرومان هي التي تنتج الأرِقّاء بشكل كبير، ويُسجّل الإراضي سترابو (القرن الأوّل للميلاد) أنّ تجارة المسترَقّين ازدهرت بعد انهيار العاهلية السلوقية (100-63 قبل الميلاد) على أيدي الرومان. وفي مصر اعتاد العُبيديون على جلب الأسرى لبيعهم في أسواق النخاسة على ما يرويه المقريزي.
اعتبرت مدينة كومبي عاصمة عاهلية غانا في بلاد التكرور في وسط إفريقيا المركز الرئيس لتجميع المسترَقّين السود وتصديرهم، وكانوا يجلبون بالإغارة على القبائل الوثنية التي تعيش على الحدود الجنوبية لمناطق السافانا، تُعرف عند العرب باسم قبائل اللملم أو الدمادم. وقد اعتاد كثير من أهل هذه البلاد على اصطياد الأطفال والنساء في أطراف القرى التي يقطنون بها، وخطفهم وترحيلهم بعيدا عن قراهم وبيعهم للتجّار النخّاسين، كما اعتاد الأهالي في هذه المناطق على خطف أبناء خصومهم وبيعهم إلى تجّار النخاسة نكاية في أهلهم. وتعتبر القرصنة أحد أسباب الاسترقاق عن طريق الخطف، حيث يهاجم القراصنة القرى الواقعة على السواحل والأراضي في العمق، فينهبون المواشي والمحاصيل، ويستولون على المدّخرات والأدوات المنزلية ولوازم المعابد والحلي الذهبية والفضّية، ويأسرون الرجال والنساء والأطفال ويبيعونهم عبيدا لمن يدفع ثمنهم، في أسواق وُجدت على سواحل البحر المتوسّط لتصريف مثل هذه البضائع المنهوبة. على الرغم من جهود القائد الروماني «بومبي» في القضاء على القرصنة بشكل فعّال في البحر المتوسّط والسيطرة عليها سنة 67 قبل الميلاد، فقد ظلّت مؤسّسة ثابتة واستمرّ الاختطاف واستمرّ من خلاله إمداد روما بالعبيد زمنا طويلا، كانت سواحل شمال إفريقيا في أوائل القرن الخامس الميلادي المنطقة المستهدفة أكثر بالخطف على نطاق واسع.
كما كانت أيضا أفريقيا الغربية مكانا لخطف الأحرار واسترقاقهم، وتوسّع هذا الخطف والاصطياد عندما اُكتشفت أمريكا، وأصبح كلّ سنة وكلّ شهر وكلّ أسبوع وكلّ يوم، لأكثر من 400 عام، وقد استعمل الأوروبيون أساليب مختلفة للإيقاع بضحاياهم، من بينها خداع الأفارقة واستدراجهم لسفنهم ثمّ الإبحار بهم، وأحيانا كانوا يخطفون المارّة من الشوارع والأطفال من المزارع حين يتركهم أهلهم لحراسة المحاصيل، ثمّ اهتدوا إلى طريقة تؤمّن لهم أعدادا كبيرة من العبيد حيث كان التجّار الأوروبيون يمدّون الممالك الإفريقية بالسلاح والبنادق ليتقاتلوا فيما بينهم، ثمّ يأخذ هؤلاء التجار الأسرى عبيدا، ويُعتقد أنّ ثلاثة أرباع العبيد الذين انتزعوا من أوطانهم هم نتاج حروب محلّية أثارتها أطماع الدول الأوروبية وتمّت بناء على مخطّطاتهم. كانت البرتغال الدولة الأوروبية الرئيسة المنغمسة في هذه التجارة في القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين، ثمّ نافستها هولندا في القرن السابع عشر الميلادي، وفي القرن الثامن عشر أصبح للكليز والفرنسيين السيطرة على تجارة الرِقّ. إنّ 55% من مجموع الأرقّاء الذين شحنوا عبر الأطلسي أخذوا من الأماكن الواقعة جنوب الكاميرون، لا سيّما الكونغو وأنغولا، وكان الشريط الواقع بين ساحل الذهب في غانا والكامرون هو المنطقة التي شُحن منها 82% من الأرقّاء الأفارقة المهجّرين، ويُعتبر الإنسان الأوروبي أكبر مُستعبِد للبشر على مرّ التاريخ، من أثينا إلى روما، وانتهاء بالحضارة الأوروبية الحديثة، فقد بلغ عدد الأحرار الذين استرقّوا من إفريقيا ونقلوا إلى أمريكا زهاء 100 بَلْف إنسان، هلك منهم زُهاء 90 بلف لسوء ظروف النقل وطول مدّته، والمعاملة القاسية وقلّة الطعام وسوئه، والأمراض التي كانت تفتك بهم.
عرفت الشعوب القديمة أيضا «رِقّ الإعسار» حيث اعتاد الإغريق والرومان استعباد صاحب الدَّين المعسر، وشكّل غالبية ضحايا هذا النظام الفلّاحون والذين كانوا يعملون في أراض مؤجّرة يملكها أثرياء الملاّك، غير أنّ «سولون» وضع حدّا لهذا النوع من الاسترقاق في أثينا بواسطة «قانون سولون» وهو «رفع الأعباء»، حيث يستطيع العبد شراء حرّيته بالمال، وهذا ما يقابل نظام المكاتبة في الفقه الإسلامي كوسيلة لحرّية العبد، كما أباح «قانون سولون» أيضا لأي مواطن أن يتصرّف بيعا أو هِبةً في طفله الوليد إذا كان لا يرغب في تربيته. من روافد الرقّ الأخرى الفقر الناتج عن المجاعات والأوبئة، فقد كان الوباء يقتل أعدادا كبيرة من البشر أكثر من الحروب، وكانت له تداعيات كبيرة على الأمم والحضارات لاسيّما إذا اجتمعت المجاعة والوباء، فالعبودية قديما كانت مؤسّسة اجتماعية تهدف إلى الحفاظ على الأرواح وليس كونها وسيلة فقط لسلب حرّية الإنسان وإذلاله، فإذا ما استمرّت المجاعة ثلاث سنوات أتت على الأخضر واليابس، ففي عامها الأوّل تأكل المدخّرات كلّها، وفي عامها الثاني تباع فيها الأرض والبيوت ويُقضى فيها على الحيوانات، أمّا في عامها الثالث فيُباع فيها الأطفال والنفوس، مثلما حدث في أوروبا عام 1215م، حيث حصلت مجاعة بسبب الجفاف، وباع الناس أطفالهم كعبيد للحصول على الغذاء، فيما ذكر بعض المؤرّخين أن الكثير من الفقراء كانوا يأكلون لحاء الشجر والجيف في أيام المجاعات. كانت الأوبئة تقتل الأبلاف، فلمّا تفشّى الطاعون في أوروبا في القرن السادس أباد بين 30 إلى 50 بَلْف إنسان، وهذا ربّما يعادل نصف سكّان العالم آنذاك، وبين عامي 1347-1351م حصد الطاعون في جميع أنحاء أوروبا 25 بلف إنسان، ممّا أدّى إلى انتشار الفقر الذي أفضى إلى العبودبة. ولهذا السبب استحال منع الرقّ في الإسلام وقطع دابره، إنّما حرص أكثر على العتق والمعاملة الحسنة وتحسين وضعية العبيد، ولهذا السبب أيضا لم تمنع البشرية استرقاق بني جنسها إلاّ عندما ازدهرت الحضارة وعمّ الرخاء، إذ لم يحدث إلاّ في القرن الماضي عندما جاء في قانون الأمم المتّحدة، ربّما ستشهد البشرية في القرون القادمة منع الحروب أيضا، لا سيّما إذا ظهرت دولة كبرى فَوْقَمِية (فوق قومية).
عَمِلَ العبيد في كلّ المهن، المنزلية والمحلّية والعسكرية والعامّة والحِرَف والخدمات الحضرية، والزراعة والتعدين. ففي المهن المنزلية، قد يعمل العبد في الحلاقة أو التنظيف أو الطبخ، أو الترجيل وهو مَشْق الشعر، أو غسل الملابس أو التمريض أو التدريس أو الخياطة، أو المحاسبة، أو النساخة أو الطبّ في بعض الأحيان. يعتبر عبيد المنازل أحسن حالا من بقيّة الأرقّاء، بل أحيانا يكونون أفضل من بعض الأحرار الفقراء في المناطق الحَضَرية، فمن المحتمل أن يتمتّعوا بأعلى مستوى معيشة من بين العبيد الآخرين. وشملت مهن العبيد في أماكن العمل الحضرية، التمويل والعِتالة والنقش والِخرازة، والدباغة والنجارة والخِبازة، وسَوْق البغال وسياسة الخيل، والزراعة والبِغاء، كما حُكم على الآلاف منهم بالعمل في المناجم والمحاجر، حيث كانت ظروف المعيشة قاسية وسيئة السمعة. وفي العهد الروماني عمل العبيد أيضا في المُجالدات حيث قضى الكثير منهم نحبهم بأيدي مسترَقّين مثلهم، وكان العديد منهم في السابق جنودا أُسروا في الحرب، وقد يكافؤ أحيانا بعض المجالدين الناجحين بالحرّية. ومن بين المهام الأخرى التي كان يقوم بها الأرقّاء، بعض الأعمال الإدارية في المؤسّسات العامّة، وهؤلاء لا يملكهم شخص واحد بعينه إنّما يكونون ملكا للدولة، فيعملون خَدَما في الأجهزة القضائية والمعابد والسجون وغيرها، ويقوم المؤهّلون منهم تأهيلا جيّدا بالأعمال المكتبية مثل المحاسبة والحِفالة (السكريتارية).