شكل من أشكال الفهم أو المعرفة المكتسبة، التي تتّسم بأنّها مفاجئة ومباشرة وفورية ومن دون تفكير شعوري أو حكم أو تأمّل أو لجوء واعٍ إلى استدلال، تحدث عند محاولة حلّ مشكلة من خلال التجربة والخطأ. الحكم الحدسي jugement intuitif، هو حكم موفّق لا تسبقه أية تهيئة منطقية. يقال عن شخص ما إن لديه حدسا حينما يصدر أحكاما صحيحة في كثير من الأحيان من دون مبرّر منطقي، ومن دون إمكانية التحليل. ينفلق الحدس أثناء الجهود البحثية والاكتشافية عن طريق الاستنارة المفاجئة، ويحدث في بعض الحالات عندما يتخلّى الباحث مؤقّتا عن موضوع عمله البحثي، ربّما مع الاهتمام بشيء آخر، وبعد أن يكون قد استنزف جهدا كبيرا ووقتا لإيجاد حلّ للمشكلة. الأفكار التي تأتي فجأة عندما يتدبّر المرء بوعي في مشكلة ما، هي حدس أيضا، وعادة ما لا تكون هذه الأفكار واضحة بذاتها في الوقت الذي حصل فيه الباحث على الحقائق لأوّل مرّة، وربّما تظهر بطريقة الحدس الأفكار البسيطة التي تُكوِّن الخطوات التدريجية في الاستدلال العادي، ويؤكّد أحد العلماء (فون هلمولتز، ريزيائي ألماني) أنّ الأفكار لا تأتيه عندما يكون ذهنه منهمكا، أو عندما يكون منشغلا بأبحاثه في المخبر، ولكن كثيرا ما تأتيه في الصباح بعد ليلة هادئة، أو أثناء صعوده ببطء على التلال المشجّرة في يوم مشمس. قد يحدث الحدس أحيانا أثناء النوم، كما أنّ بعض الناس لا يحدسون أبدا أو لا يحدسون حدوسا ذات قيمة، فهم لا يدركون ما هو الحدس، ويعتقدون أنّهم لا يستمدّون أفكارهم إلاّ من التفكير الواعي، ولمّا كان الحدس ثمرة الذهن البشري غير المعصوم من الخطأ، فإنّ الحدس لا يكون صحيحا دائما بأية حال من الأحوال، فالمرء يميل عادة إلى تذكّر الحالات الناجحة أكثر من الحالات الفاشلة.
إنّ أحسن الظروف الملائمة للحدس، هي الفترة التي تأتي بعد العمل المركّز في المشكلة مع الرغبة الصادقة في حلّها، ثمّ التخلّي عن العمل فيها، وأخيرا ظهور الفكرة بطريقة مفاجئة غير متوقّعة على الإطلاق، مع اليقين الكبير في صحّتها، وكثيرا ما يصاحب ذلك شعور بالابتهاج. قد يعود ارتباط هذا الانفعال العاطفي بهبوط الفكرة النيّرة إلى مقدار ما بُذل من المجهود الانفعالي والذهني في حلّ المشكلة، زيادة على التحرّر المفاجئ من جميع احتمالات الفشل، وقد كان «كلود برنار» يقول: «من لم يعرف عذاب البحث عن المجهول، لا ينعم بمتعة الكشف». يرى أغلب النفسيائيين أنّ الحدس ينشأ من النشاط شبه الواعي للذهن الذي يكون قد استمرّ في تقليب المشكلة على نواحيها، على الرغم من أنّ الذهن الواعي يكون قد كفّ عن الاهتمام بها. فالذهن شبه الواعي يقوم بالتنسيق بين الأفكار المختلفة التي ارتبطت بالموضوع، وعند العثور على علاقة بينها ذات أهمّية يعرضها على الذهن الواعي لتقدير قيمتها، أمّا الحدوس التي تأتي أثناء التفكير الواعي، فليست سوى أفكار أكثر غرابة عن المعتاد. ربّما من الشروط الهامّة التي تحكم حدوث الحدس، هي:
- 1- التفكير في المشكلة والوقائع المتعلّقة بها وقتا طويلا إلى درجة تشبّع الذهن بها، مع الرغبة الصادقة في حلّها؛
- 2- التحرّر من المشاكل والمشاغل الأخرى التي تتصارع في الذهن؛
- 3- فائدة فترات الاسترخاء في التمهيد لظهوره، إذ لا يستطيع الذهن الواعي استقبال الرسائل الصادرة عن الذهن شبه الواعي إذا كان الأوّل في انشغال دائم، أو كان مرهقا جدّا.