معجم المصطلحات الكبير
مَسِيحِية
الأديان

المسيحية، ديانة من الديانات الإبراهيمية مع الإسلام واليهودية، والتي تعتبر نفسها توحيدية، أي أنّها عقائد يكون الإيمان فيها مرتكزا على وجود إله واحد، والواقع أنّ النظرة الفاحصة لليهودية والإسلام تبيّن بجلاء أن اليهود والمسلمين يعبدون إلها واحدا الذي خلق السماوات والأرض ومن فيهن، أمّا المسيحية فتعريف التوحيد عندها مختلف، فبدل أنّ يجعلوا الله مرتكزا لعقيدتهم، فإنّ المسيحيين غيّروا اتجاههم إلى المسيح عليه السلام، فالفكرة الأساسية التي تقوم عليها المسيحية، هي: «الإله في صورة إنسان» الإله المتجسّد، يسوع المسيح الذي نزل من السماء إلى الأرض ورضي بالألم والموت صلبا لافتداء البشر وتبرئتهم من الخطيئة الأولى خطيئة أبيهم آدم، ثمّ نهض من قبره وصعد إلى السماء وسيعود مرّة أخرى ويظهر في المستقبل ليحكم الأحياء والأموات، فالمسيح هو ابن الله عندهم، وله ذات المكانة التي للأب (ويقصدون الله)، أي أنّهما أقنومان متساويان، ومن يقل إنّ الابن أقلّ مكانة من الأب، فهو يعدّ في الأرثوذكسية مهرطقا، وإذا أضفنا إلى هذين الأقنومين «الروح القدس» نجد أنفسنا أمام «الثالوث المسيحي» المعروف.

يؤمن المسيحيون بأن عليهم أن ينفّذوا وصايا المسيح وأن يقاسوا مشاقّ الحياة ويروِّضوا أنفسهم بالضبط كما فعل يسوع المسيح ومن ثمّ يُكافؤون في الحياة السماوية، فالدين المسيحي يدور كلّه حول شخصية المسيح عليه السلام، والأعياد المسيحية الرئيسة تتعلّق بأحداث في حياة عيسى المسيح، والصليب الذي هو رمز العقيدة المسيحية يشير إلى عيسى المسيح، وصلواتهم موجّهة إلى عيسى المسيح لأنّهم يعتبرون أنّ الله نفسه لا يمكن أن يخاطبه إنسان عادي، فالكثير من المسيحيين لا يعرفون الله إلاّ من خلاله، وغير قادرين على فهم وجود الله من دون أن يكون عيسى المسيح واقفا هناك وأمام الله في مواجهتهم. تقول الكاتبة الأمريكية باربارا براون في كتابها نظرات عن قرب في المسيحية: «إنّ المسيحيين يقولون إنّهم يعبدون الله إلاّ أن عيسى هو أيضا هناك في الوقت نفسه، ولأنّهم يرون أنّ المسيح إضافة إلى الله هو إلهي أيضا فإنّ المسيحية هي ديانة ذات إلهين وليس إلها واحدا، وإنّ دينا له أكثر من إله واحد ليس دينا توحيديا».

حينما بُعث المسيح عليه السلام إلى قومه بني إسرائيل كان مجتمعهم طافحا بالآثام وبالشهوات الجامحة، فقد انحرف عن التوحيد تحت غطاء كثيف من الطقوس والشعائر المعقّدة، وجعل الكهنة من الهيكل سوقا ماليا لتجارتهم فلم يعودوا مؤتمنين على دين الله ولا على دنيا الناس، وأصبح من بينهم من ينكر حتّى البعث والجنّة والنار، وقد أكّد المسيح عليه السلام على أنّ رسالته من الله هي أن يعيد اليهود إلى الطريق المستقيم، وأنّ دعوته هي دعوة الأنبياء جميعا من قبله، فلم يأتِ لينقض الناموس والأنبياء ، إنّما جاء ليكمل، «إنّ ابن الإنسان قد جاء ليستنقذ ذلك الذي ضاع» (متّى، 18) «ذلك بأنّني لا أتكلّم من نفسي، ولكن الأب الذي أرسلني أمرني ماذا أقول وبماذا أتحدّث» (يوحنّا 12: 49) «لا تظنّوا أنّي جئت لأبطل الشريعة وتعاليم الأنبياء، ما جئت لأبطل، بل لأكمّل» (متّى 5: 17)، ثمّ إنّ الدراسة المتمعّنة لكلمات المسيح عليه السلام تُظهر على عكس ما يظنّه المسيحيون، أنّه لم تكن لديه أية نيّة ليؤسّس دينا جديدا فهو يعتبر نفسه المسيح، ولم يكن رجل حرب، ولم يؤسّس جيشا لمحاربة الرومان، ولم يقع في خلده أن يُصْلَب ليخلّص البشرية من لعنتها الأبدية، ولم يعتبر نفسه أبدا كائنا إلهيا، فقد أشار إلى نفسه بأنّه ابن الإنسان، وأنّه ليس إلاّ رسولا من ربّ العالمين؛ «لماذا تسمّونني كاملا، فليس هناك كامل إلاّ واحد وهو الله» مرقس (10: 18). «إنّ من يؤمن لي لا يؤمن بي أنا، بل يؤمن بالذي أرسلني» مرقس (9: 37). «إنّ هذه هي الحياة الخالدة أن يعرفوك أنت الإله الحقّ وحدك ويعرفوا عيسى المسيح الذي أنت أرسلته» (يوحنّا 17: 3). «والآن تريدون أن تقتلوني وأنا إنسان قد أنبأتكم بالحقّ الذي سمعته من الله» (يوحنّا 8: 40).

لكنّ اليهود على اختلاف طوائفهم ونحلهم كذّبوا برسالة المسيح عليه السلام بل خذلوه وعادوه واتهموه في نسبه ثمّ ألّبوا عليه الرومان وسعوا في قتله، وفي جبل الزيتون الواقع شرقي بيت المقدس وقف عليه السلام ينذر جموع اليهود ويقول: «يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها! كم مرّة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة أفراخها تحت جناحيها، ولم تريدوا.. هو ذا بيتكم يُترك لكم خرابا» (متّى 37-38). ونقرأ هذا الحوار في إنجيل يوحنّا (39، 40، 44) والذي يخبرنا بسعي اليهود إلى قتل المسيح وتعريضهم بولادته في قولهم نحن أبناء إبراهيم: «قال اليهود للمسيح، أبونا هو إبراهيم، قال لهم يسوع: لو كنتم أولاد إبراهيم لكنتم تعملون أعمال إبراهيم... ولكنكم تطلبون قتلي... وهذا ليس عمل إبراهيم... أنتم من أب هو إبليس». يقول روزنتال في رسالة إلى أرنولد توينبي وجهها إليه ردّا على رسالة كان توينبي قد بعث بها إليه: «ما هو المشترك بين اليهود؟ يمكن أن يكون عصبيتهم الدينية أو إنكاريتهم ويمكن أن يكون غير ذلك إلا عدم اعترافهم بيسوع فهو عامل مشترك بينهم جميعا. ما هو المشترك بين اليهود؟ يمكن أن يختلفوا حول الإيمان وحول الكفر ولكنهم يتفقون بحزم على إنكار المسيح بغض النظر عن كونهم متديّنين أو مفكرين أو منكرين أو خلاف ذلك.. فإن المشترك بينهم عدم اعترافهم بيسوع.. بإمكانك أن تفصله عن الكنيسة التي أسّسها فعلا غير أنه وبإجماع اليهود يبقى خارجا عليهم وسيبقى كذلك إلى الأبد».

بعد ثلاث سنوات من إعلان بعثته عليه السلام ألقي عليه القبض كما يعتقد المسيحيون واتّهم بالتحريض على العصيان والكفر، ثمّ صُلِب ودُفِن وقام بعد ثلاثة أيّام من موته وظهر لأمّه وتلاميذه ثمّ صعد إلى السماء. يقول الأسقف إيسوذورس: «تمّت محاكمته وصلبه كمجرم، ومات وقام وظهر لتلاميذه، ولم يظهر لليهود لأنّهم كانوا ينسبون أعماله العظيمة لقوّة السحر، فلو ظهر لهم لكانوا قد زعموا أنّه خيال أوجدته قوّة الشيطان». ويقول أندرو ميلر عن أهمّية الصلب في العقيدة المسيحية: «إنّ التجسّد والصلب والقيامة هي الحقائق العظمى الثلاثة للمسيحية، فالتجسّد كان لازما ليتمّ الصلب، والصلب كان ضرورة لتتمّ القيامة، وواضح أنّ المسيح جاء في الجسد، وأنّه مات فوق الصليب من أجل خطايانا». لكنّ القرآن يفنّد هذه الحكاية ويخبرنا أنّ المسيح عليه السلام لم يُقتل ولم يُصلب، بل شُبِّه لليهود والرومان أمر القتل والصلب، بينما سلّمه الله في الواقع وحفظه من كلّ سوء، ثمّ رفعه إليه بعد أن توفّاه، وقد ترك وراءه حفنة من الأتباع لا يزيدون على الخمسمئة بأي حال.

إلاّ أنّ المسيحية التي نعرفها اليوم لها شأن آخر، فقد ظهر فجأة على مسرح الأحداث شخص ادّعى أنّه يتكلّم باسم المسيح، وذلك بعد سنوات قليلة فقط من رحيل المسيح عن الأرض، لم ير عيسى عليه السلام، ولم يعرفه، ولم يسمع منه أو من حوارييه، ومع ذلك يزعم أنّ عيسى عليه السلام ظهر له وأعطاه الأمر بتبليغ هذه المسيحية التي تناقض كلّ ما جاء به المسيح أو دعا إليه. هذا الواعظ هو شاب يهودي ينسب نفسه إلى طائفة الفريسيين واسمه شاؤول، وقد وُلد في طرسوس غير متأخّر كثيرا عن ولادة عيسى عليه السلام، وقد شهد شاؤول هذا مقتل أحد أتباع المسيح واسمه إسطيفان، الذي ألقى خطابا ناريا عندما أُحضِر ليحاكم أمام المجلس اليهودي الأعلى المعروف بالسنهدريم، فقام القضاة، وهم يصرخون بغضب حول ما اعتبروه كفرا، بسحب إسطيفان هذا إلى خارج المدينة حيث رُجم بالحجارة حتّى الموت. لقد امتلأ كهنة السنهدريم هؤلاء بالتعصب والحقد على أتباع المسيح وانطلقوا في ملاحقتهم، فبعد إعدام إسطيفان بدأ شاؤول يأخذ دورا فعّالا جدا في هذا المضمار، حيث أصبح رئيس الوكلاء في مطاردة المؤمنين بالمسيح والقبض عليهم ثمّ الزجّ بهم في السجون، وقد أعطي تسريحا من لدن الكاهن الأعظم وزوّد بالوثائق الضرورية ليتوسّع في التطهير إلى المدن المجاورة.

بعد ما يقارب السبع سنوات من رفع عيسى عليه السلام، توجّه هذا الشاب المتحمّس الذي كان عمره آنذاك خمسة وعشرين عاما إلى دمشق ليختطف مجموعة من النصارى من أتباع المسيح ويعود بهم إلى القدس، وفي الطريق حصلت له رؤيا إدّعى فيها أنّ عيسى عليه السلام ظهر له وسأل شاؤول، قائلا له: لماذا تضطهدني؟ فقال من أنت يا سيّد؟ فقال: أنا يسوع الذي أنت تضطهده. وهذ الحدث الكبير هو الذي كان وراء ولادة الدين المسيحي كما نعرفه اليوم، فحين آمن شاؤول بالمسيح، تحوّلت المسيحية من كونها استمرارا للديانات اليهودية الأصيلة إلى دين مختلف تماما ذي لاهوت خاصّ، وأساطير خاصّة لا علاقة لها بدين المسيح. لقد غيّر شاؤول اسمه اليهودي إلى اسم آخر روماني وهو بولس Paul of Tarsus، وساح في الصحارَى العربية ليبحث في هدوء وسكينة عن المسلك الذي سيسلكه لينفّذ ما اعتقد أنّه أمر من المسيح بالتبشير بدينه بين الناس، وقد أخذ منه ذلك زهاء ثلاث سنوات، ، قبل أن يصعد إلى أورشليم للقاء بطرس وتثبيت دعوته.

كان بولس يدرك جيدّا أنّ الحظّ لن يحالفه مع اليهود الذين عجز المسيح نفسه عن كسبهم، لذلك هداه تفكيره أنّ يتوجّه بهذه الدعوة الجديدة إلى الأمّيين gentiles الوثنيين من الرومان والإغريق، لقد كان القانون الروماني يفرض على المواطنين باستثناء اليهود الولاء للآلهة والآلهات، والتي كانت تماثيلها ومعابدها منتشرة في كلّ مكان، وكان بولس يعرف جيّدا أنّ مثل هؤلاء الوثنيين لن يقبلوا بفكرة أنّ الخلاص في اليوم الآخر يمكن أن يأتي عن طريق شخص من البشر يعتبر فقط مستقيما وإنسانا صالحا، تماما مثلما قال تعالى: «وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلاّ أن قالوا: أبعث الله بشرا رسولا» (الإسراء، 94). لذلك عقد العزم عندما عاد إلى دمشق مرّة أخرى أن يعطي الوثنيين إلها ملموسا وراءه أساطير وخرافات عجيبة، إلها مستمدّا من الأساطير الوثنية لتلك الآلهة التي تموت وتبعث، من الأساطير الغنوصية التي تتحدّث عن مخلّص ينزل من السماء.

تعليق

تُجمع المصادر الإسلامية والنصوص الإنجيلية على أنّ رسالة عيسى بن مريم عليهما السلام كانت موجهة إلى بني إسرائيل دون غيرهم. فقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: ورسولا إلى بني إسرائيل (آل عمران، 49)، كما جاء في إنجيل متّى على لسان المسيح: لم أُرسل إلّا إلى الخراف الضالّة من بيت إسرائيل (متى 15:24). وهذا يشير بوضوح إلى أنّ رسالته كانت إصلاحية داخل الإطار الديني اليهودي، ولم تكن دعوة عالمية موجّهة إلى الأمّيين، غير أن تحوّلا حاسما طرأ على البِنية اللاهوتية والعقائدية للمسيحية مع ظهور بولس الطرسوسي، الذي لم يكن من تلاميذ المسيح، ولم يلقه في حياته، بل زعم أنّ المسيح ظهر له في رؤيا بعد صلبه (حسب روايته)، وكلّفه بحمل الرسالة إلى الأمم. وقد دوّن في رسالته إلى أهل غلاطية ما نصّه: وأمّا الأمم فقد اؤتمن بطرس على إنجيل الختان، وأؤتمنت أنا على إنجيل الغُرْلة (غلاطية 2:7). بهذا التصوّر، قام بولس بإعادة صياغة العقيدة المسيحية في اتجاهين أساسيين:

  • 1- التوسيع الإراضي والبرنسي للدعوة لتشمل غير اليهود، وهو ما يمثّل قطيعة مع الحصر العرقي الذي التزمه عيسى عليه السلام؛
  • 2- التحوّل العقائدي الجِذْراني، حيث ألّه المسيح، وركّز على عقيدة الفِداء والخطيئة الأصلية، لاغيا بذلك العديد من الشرائع الموسوية، مثل الختان والتشريعات الطقسية.

من منظور إسلامي، يرى بعض الباحثين أنّ بولس كان على علم بالنبوءات الموجودة في التوراة والإنجيل بشأن نبي يُبعث إلى الأميين (أي الأمم غير المتعلّمة المنقطعة عن الوحي)، وهي النبوءات التي فسّرها المسلمون لاحقا على أنّها تشير إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، كما ورد في قوله تعالى: الذين يتّبعون الرسول النبي الأمّي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل (الأعراف، 157)، وبناء على ذلك، يُحتمل أنّ بولس، بعد أن أدرك وجود نبوءة تتحدّث عن رسول سيبعث إلى الأمم، قد سعى إلى تحوير معانيها وتنزيلها على نفسه، ليس بإعلان النبوة الصريحة، ولكن عبر تأويل دور المسيح وتحويله إلى كائن إلهي، وجعل نفسه حامل دعوته إلى غير اليهود، في ما يمكن اعتباره انتحالا لمكانة الرسول الموعود. لقد أدّى هذا التحول إلى نشوء ديانة عالمية ذات بنية عقائدية مختلفة جذرانيا عن الرسالة العيسوية الأصلية، وأدّى إلى إخراج المسيحية من سياقها اليهودي إلى إطار كوني جديد، كان لبولس فيه الدور المركزي التأسيسي.

هناك شواهد من رسائل بولس نفسها، ومن السياق التاريخي للعقيدة التي أسسها، تلمّح (ولو بطريقة غير مباشرة) إلى أنّه قد سعى إلى أن يشغل موقع النبي الموعود إلى الأمّيين، وهو الموقع الذي يقول القرآن والكتب اليهودية القديمة إنه سيكون لرسول آخر الزمان. وهذه أبرز الأدلة والشواهد:

1- في عدة مواضع من رسائله، يصرّح بولس صراحة بأنّه هو الذي أُرسل إلى الأمم غير اليهود، وهي الفئة التي يُشار إليها في التراث التوراتي بالأمميين، وهو المصطلح الذي يستعمله القرآن أيضا بصيغة الأمّيين: بولس، عبد ليسوع المسيح، المدعوّ رسولا، المفرز لإنجيل الله... (رومية 1:1)، الذي فصلني من بطن أمي، ودعاني بنعمته، أن يعلن ابنه فيَّ لأبشّر به بين الأمم (غلاطية 1:15-16)؛ إنّه أعطاني نعمة لأكون خادما للمسيح يسوع بين الأمم... (رومية 15:16). هذه الصياغات تُشبه كثيرا ما يُقال عن الرسل والأنبياء في العهد القديم والعهد الجديد، من دعوة خاصّة وإفراز من الله ورسالة إلى أمّة محدّدة.

2- واحدة من الخصائص المميّزة للنبي الموعود (كما تقدمه التوراة والقرآن) هو أنّه يأتي بشريعة جديدة، ناسخة لما قبلها. وهذا بالضبط ما فعله بولس: فقد ألغى الشريعة الموسوية عمليا (أو اعتبرها قد تمّت في المسيح)، ودعا إلى الاكتفاء بالإيمان بالمسيح المصلوب، دون أعمال الشريعة: قد تبررنا بالإيمان، لا بأعمال الناموس... (رومية 3:28)؛ فإنّه في المسيح يسوع لا الختان ينفع شيئًا ولا الغُرلة، بل الإيمان العامل بالمحبّة... (غلاطية 5:6). هذا خطاب تأسيسي لعقيدة جديدة، لا مجرّد تفسير لتعليمات المسيح، ممّا يضع بولس فعليا في مقام مشرّع ومؤسّس، لا مجرّد تابع لنبي سابق.

3- بولس يصرّح بأن إنجيله لم يتلقّه من إنسان، بل بإعلان يسوع المسيح: وأعرّفكم أيها الإخوة، أن الإنجيل الذي بشّرتُ به، ليس بحسب إنسان. لأني لم أقبله من عند إنسان، ولا علِّمتُه، بل بإعلان يسوع المسيح (غلاطية 1:11-12). وهي صيغة تشبه ما يُقال عن الأنبياء الذين يتلقّون الوحي مباشرة من الله أو الملاك، لا عبر تعليم بشري.

4- لا نجد في العهد الجديد نصّا مكتوبا بخطّ المسيح نفسه، بينما كتب بولس 13 رسالة على الأقلّ، شكّلت العمود الفِقاري للعقيدة المسيحية في القرون الأولى. وفي مواضع متعدّدة، يجعل نفسه المرجع الأعلى حتّى على غيره من الرسل: فإنّه إن كان أحد يأتيكم بإنجيل غير الذي قبلتموه، فليكن ملعونا (غلاطية 1:9)، نلاحظ أنّه لا يطلب الرجوع إلى تعاليم المسيح، بل إلى الإنجيل الذي هو نفسه قد بشّر به!

5- ورد في سفر إشعياء 42، وصفٌ لنبي آخر الزمان، يقول: هوذا عبدي الذي أعضده... لا يكلّ ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض، وتنتظر الجزائر شريعته... (إشعياء 42:1–4)؛ ليترفع البرية ومدنها وصياح سكان قيدار... (إشعياء 42:11)، وقد اعتبر المسلمون هذه النبوءة إشارة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، باعتبار أنّه هو النبي الذي بُعث إلى الأميين وبشريعة جديدة. والسؤال المطروح هو: هل كان بولس على علم بهذه النبوءات؟ وإذا كان كذلك، هل أراد أن يسبق النبي المنتظر، ويُقدّم نفسه في هذا الدور؟

6- في سورة الصف، يذكر الله أنّ عيسى بن مريم بشّر برسول يأتي من بعده اسمه أحمد، لكن فئة من أتباعه حرّفوا الرسالة: وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقًا لما بين يدي من التوراة ومبشرًا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد، فلما جاءهم بالبيّنات قالوا هذا سحر مبين (الصف، 6).

كلّ هذه الشواهد تدفع بعض الباحثين إلى القول إنّ بولس لم يكن مجرّد رسول يحمل دعوة المسيح، بل قدّم نفسه فعليا في دور النبي المُنتظر إلى الأمم، واستبق بذلك ظهور النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام في وعي الجماعات الوثنية اليونانية والرومانية. ومن هذا المنظور، يُفهم خطاب بولس على أنّه تحوير ناعم لنبوءة عالمية، بهدف الاستحواذ على جمهور لا يملك نصوصا ثابتة أو تقاليد نبوية راسخة، كما فعلت الكنيسة لاحقا حين أدخلت الأساطير الوثنية في البنية المسيحية.

يتّضح من تحليل رسائل بولس الواردة في العهد الجديد أن الرجل تبنّى موقفًا نقديًا حادًا تجاه الشريعة الموسوية (التوراة)، واعتبرها عبئا ثقيلا وأغلالا تقيّد الإنسان، لا طريقا إلى الخلاص أو البرّ. ففي رسالته إلى أهل غلاطية، دعا أتباعه إلى التمسّك بالحرّية التي أتى بها المسيح، محذّرا من العودة إلى نير العبودية، في إشارة مباشرة إلى الناموس اليهودي. كما عبّر عن الشريعة باعتبارها مؤقّتة، أدّت دور المؤدّب الذي يرشد حتّى مجيء المسيح، وبعده زال دورها. وذهب أبعد من ذلك حين رأى أنّ الناموس لا يزيل الخطيئة بل يفضحها، بل إنّه –في بعض المواضع– اعتبر الشريعة مولّدة للخطيئة ومثيرة لها.

في هذا السياق، شبّه بولس الناموس بحائط فصل وعداوة بين اليهود والأمم، مؤكّدا أنّ المسيح قد أبطل هذا الحاجز بجسده، وألغى وصايا الناموس في فرائضه، وهو بذلك يضع أساسا لانتقال الدعوة إلى الأمم (غير اليهود) خارج الشريعة اليهودية. هذا التوصيف السلبي للشريعة، واعتبارها قيودا وإصرا، يُذكّر بما يورده القرآن الكريم عن بعثة النبي الرسول عليه الصلاة والسلام، بوصفه مبعوثا يضع عن الناس إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، أي ما فُرض عليهم من أثقال تشريعية، إمّا لحكمة اختبار، أو كعقوبات تربوية كما في عقوبات بني إسرائيل.

ومع أن بولس يقترب في خطابه من الصيغة التي جاء بها القرآن في وصف التخفيف الإلهي عن الأمم السابقة، إلّا أنّه يختلف جوهريا في المقصد، إذ يجعل من المسيح نفسه إلها محرِّرا من الناموس، ويؤسّس لعقيدة دينية جديدة تتجاوز التوحيد التشريعي والنبوي، في حين أنّ الإسلام يرى في عيسى نبيا مرسلا لبني إسرائيل، ومبشّرا برسول يأتي من بعده، لا ناسخا للشريعة ولا مفارقا لمسار النبوة.

وهكذا، يمكن القول إنّ بولس لم يقدّم نفسه نبيا صراحة، لكنّه جسّد في خطابه وممارسته دور رسول الأمّيين، وتقمّص موقع من يُبلّغ شريعة جديدة لأناس لم تُبعث إليهم رسالة من قبل، وهو توصيف يوازي –ضمن الرؤية الإسلامية– أوصاف النبي الذي بُعث في الأميين. ومن هنا، يبدو أنه انتَحل موقعا لم يكن له، وصاغ رؤية لاهوتية توشّحت وتوسّعت بدين المسيح في اتجاهات مغايرة لما جاء به عيسى عليه السلام.

مراجع

  • نظرة عن قرب في المسيحية. تأليف: الكاتبة الأمريكية، باربارا براون. ترجمة المهندس: مناف حسين الياسري. نشر توحيد، 1415.