اتجاه في الفن التشكيلي يقوم على توظيف الحرف العربي كمفردة تشكيلية لتحقيق منجز بصري، ضمن تعاليم الفنّ الحديث من خلال الجمع بين الأصالة والحداثة. وقد ظهر في الستينيات من القرن العشرين الميلادي في العالم الإسلامي، حيث عمل الفنّانون المسلمون على تطوير لغة بصرية خاصّة بالثقافات الإسلامية المحلّية. يقول صلاح شيرزاد (2002م): «المدرسة الحروفية تختلف عن مدرسة الخطّ العربي التقليدي في أنّ الأولى لا تبني العمل الفنّي على النصّ الكامل دائما، ولا تعنيها القواعد الموزونة للحروف، وإنّما تستعمل مختلف الصِّنْعات (التقنيات) التي هي تشكيلية بحتة، فالحروف عند الحروفيين لها قيمة تشكيلية بحدّ ذاتها دون أن تحمل بالضرورة معان لغوية. إنّ هذا الاختلاف في الرؤية والمفهوم عند الخطّاطين التقليديين والحروفيين لهو اختلاف جوهري في التعامل مع الحروف، وهو سبب كاف لإضفاء صبغة المدرسية على الاتجاه الحروفي».
نشأ هذا الاتّجاه نتيجة تأثّر الفنّانين التشكيليين العرب والمسلمين الروّاد بالفنّانين التشكيليين الغربيين، أثناء دراساتهم للفنّ في الدَّيْونات الأوروبية، والتي دفعتهم للتوجّه إلى الموضوعات المحلّية، التاريخية، والاجتماعية، والتراثية، لا سيّما حين رأوا زملاءهم الفنّانين الغربيين مهتمّين أيضا بها، ومنكبّين على استلهامها في أعمالهم الفنّية. وقد شكّل الحرف العربي أحد الخيارات أمام الفنّان التشكيلي المعاصر، بعد أن اكتشف مدى ما يتمتّع به من قدرات تشكيلية وتعبيرية إبداعية كبيرة، تصلح أن تكون لاحة أو منحوتة أصيلة. والحروفية التي يشتغل عليها اليوم عدد كبير من الفنّانين التشكيليين العرب والمسلمين تحوّلت إلى تيّار له ثقله الكمّي والنوعي، في الحياة الفنّية التشكلية، وهي على قدر كبير من التنوّع والاختلاف من فنّان إلى آخر ومن بلد إلى بلد آخر. بدأت الحروفية في الرباط وتونس ومصر والعراق، وحسب ما نقله الفنّان ضياء عزّاوي، فإنّ الفنّانة العراقية «مديحة عمر» هي أوّل من استعمل الحرف العربي في لاحة الرسم، وذلك في فترة الأربعينيات. كانت البداية محاولات متفرّقة، حتّى سنة 1971م حيث أقام بعض الفنّانين العراقيين معرضا لأعمالهم ببغداد، وكان بعُلوان «الفنّ يستلهم الحرف»، وأطلقوا على أنفسهم «جماعة البُعد الواحد»، وهم: شاكر آل سعيد، جميل حمودي، محمّد غني ضياء، رافع الناصري. وجاء في البيان الذي صدر عنهم: «وهكذا، نجد أنفسنا اليوم، لفيفا من الفنّانين الذين يساهمون في إدخال الحرف عبر أعمالهم التشكيلية، ملزمين بإقامة معرض فنّي ووثائقي باسم معرض البعد الواحد، وتحت شعار الفنّ يستلهم الحرف، ومن نقطة انطلاق تشكيلية بحتة، مثمّنين به هذا العنصر الفنّي الهام، كجذر أصيل معبِّر عن روح حضارتنا وفلسفتها معا، في أكثر جوانبها إشراقا». ويذكر المؤلّف اللبناني شربل داغر (1990م): أنّ التجارب الحروفية تكشف لنا عن ميدان تشكيلي، يقوم على مبدأين أساسيين، هما: (1) القطيعة التامّة مع طُرُز الخطّ العربي، والتعامل مع حروف العربية كمادّة للتشكيل، (2) ثمّ بناء لاحة حديثة، ولكن بصيغة محوّرة، مطوّعة للتعبير عن خصوصية ثقافية أو حضارية.
ينقسم الحروفيون إلى صنفين، صنف أتقن الخِطاطة الإسلامية على أصولها التقليدية ثمّ وظّفها في لاحات فنّية تشكيلية بديعة، فجمعت أعمالهم بين هيبة التراث وجلاله وبين سمو الفنّ الحديث ورمزيته، وهؤلاء هم الحروفيون الخِطاطيون، وصنف آخر استعمل الحرف العربي العفوي الدارج من منظور جمالي فنّي بحت، معتمدا في إبراز القيمة الفنّية على اللون والشكل والحجم وموقع الحرف في مضمون اللاحة، فكانت أعمالهم مبعثا للمشاعر الدفينة وملهبة للخيال، ويمثّل هذا الصنف الحروفيون التشكيليون. وقد اعتبر الحروفيون الخطاطيون أنفسهم أمناء على أصالة الحرف العربي، ونظروا إلى الحروفيين التشكيليين بعين الريبة والتوجّس، واصفين إيّاهم في بعض الأحيان بالعبثيين، فيما يرى آخرون أنّ التجديد والبحث الدائم لإبراز جمال الحرف سيزيد الحروفية الإسلامية تألقّا، ويحفظ لها مكانتها بين الفنون التشكيلية الأخرى. وفي محاولة للخروج ببعض التصنيفات الأسلوبية في أعمال هؤلاء الفنّانين، أمكن تحديد بعض السمات الرئيسة الموجودة عند مختلف الفنّانين الحروفيين منها:
1- الاعتماد على الحركة التلقائية الطبيعية في تشكيل الحروف لبناء فنّ تشكيلي حروفي، وقد ظهر هذا الأسلوب عند «جماعة البعد الواحد»، وأشهر فنّانيهم شاكر حسن آل سعيد، الذي رأى في استعمال الحرف محاولة للعودة إلى القيم الحقيقية للفنّ. وقد وضع روّاد هذا الأسلوب أسسا فلسفية وتنظيرات جعلت من العمل الفنّي الحروفي عملا تأمّليا أكثر منه بصريا.
2- تحطيم الحروف ووضعها ضمن مساحات، وإلغاء أي معان أو قراءة أدبية للنصّ، والاعتماد على الحرف كمساحة لونية تؤكّد التضاد والاهتمام فقط بشكله، وعدّه رمزا تشكيليا يملأ المساحة، وقد اعتمد هذا الأسلوب على الاستفادة من التكوينات التجريدية الغربية بشكل أساسي، ومن قدرة الحرف العربي الليّن على التمدّد والانبساط وَفْق قواعد مرنة، تمكّن الحروفي أن يتصرّف فيه بما يتناسب مع المقصود ولا يُخلّ بالجمال.
3- البحث عن خطوط جديدة ضمن تكوينات معاصرة لنصوص مقروءة، مع الاستفادة من القواعد والأسس الدَّيْوَنية (الأكاديمية) للخطّ الجافّ والليّن. من روّاد هذا الأسلوب الحروفي منير شعراني، وسعيد صكّار.
4- توظيف الخطّ الهندسي والاستفادة من أشكاله ضمن مساحات متوضّعة على كتل هندسية كالكعوب والكُرات، وقد ارتبط هذا الأسلوب بالألوان الزيتية على القماش والورق، والمزاوجة بين الزخرفة الهندسية والنباتية، كأعمال حسّان أبو عيّاش، وسامي برهان من سوريا، وأحمد شبرين من السودان، ومحمود طه من الأردن.
هذا التصنيف غير كافٍ ولا يلمّ بكلّ الاتجاهات، فمساحة الاهتمام بهذا النوع من الفنون التشكيلية تزداد باطّراد، وتتّسع كلّ يوم لتضيف تجربة واسما جديدين لعالم الحروفية.