معجم المصطلحات الكبير
مُجْتَمَع
الاجتماع

مفهوم يستعمل لوصف بنية علاقات ومؤسّسات اجتماعية بين جماعة كبيرة من الناس، الأمر الذي لا يمكن أن يجعلها مجرّد تجميع بسيط أو حشد من الأفراد. يمكن إرجاع مفهوم المجتمع إلى القرن الرابع عشر عندما كان معناه الأوّل يفيد العِشْرة أو المزاملة، وهذا المعنى المحدود كان ولا يزال يُرى في استعمال القرن الثامن عشر وصفَ جماعات الطبقات العليا أو «المجتمع الراقي» كما اُستعمل مصطلح المجتمع لوصف مجموعات من الناس متجانسة العقول مثل «جمعية الأصدقاء» society of friends أو الكوايكرز أو «جمعيات» علمية متنوّعة. لكن بموازاة هذا، كان هناك تعريف للمجتمع أكثر عمومية وتجريدا، وأصبح أكثر ثباتا في أواخر القرن الثامن عشر وانطلاقا من هذا المفهوم العام، نشأ المعنى الخاص لهذا المفهوم في علم الاجتماع في القرن التاسع عشر.

نستطيع تقديم حجّة قويّة في أنّ المجتمع كان ولا يزال المفهوم المركزي في علم الاجتماع، الذي استعمله دوركهايم ليؤسّس العلم الجديد الذي يتعامل مع الواقع الجماعي للحياة الإنسانية في مقابل دراسة الأفراد. رأى دوركهايم المجتمع واقعا مستقلا وُجد بطريقة فريدة أو «مستقلّة»، وله تأثير عميق في الأفراد داخل منطقة محدودة. حافظ تصوّر دوركهايم عن المجتمع على مكانه المركزي في خلال فترة طويلة من القرن العشرين ولم تقع مساءلته بجدّية إلّا ابتداء من منتصف السبعينيات من القرن نفسه وما بعدها. فنظريات عن مستوى عالمي صاعد للواقع الاجتماعي ونظريات العولمة أثارت تساؤلات حول مفهوم دوركهايم عن المجتمع المستند إلى أرضية الدولة الأمّة. جذبت أيضا دراسة العمليات الاجتماعية على المستوى العالمي، الانتباه إلى حركة الناس والبضائع والثقافة عبر الحدود الوطنية، وكان ثمّة دعوات في العقود الأولى من الألفية الثالثة إلى الدفع بعلم الاجتماع ليتجاوز بالكامل مفهوم المجتمع نحو تحليل مؤهّل ليكون أكثر إثراء في دراسة الحراكات mobilities، ما زال مفهوم المجتمع في علم الاجتماع أساسا للهوية الذاتية للعاملين فيه. فمعاجم ومؤسّسات كثيرة تصرّح بحقيقة لا جدل فيها بأن علم الاجتماع هو دراسة «المجتمعات» التي تعرّف باعتبارها مجموعات كبيرة مربوطة بتنظيم داخل مناطق محدّدة تسمى الدول القومية (الدولة الأمة).

أضاف تالكوت بارسونز Parsons Talcott معلما آخر مهمّا يتمثّل في قدرة المجتمع على أن يديم نفسه، وذلك بمعنى أنّ مؤسّساته التي تكوّنه ينبغي أن تكون قادرة على إعادة إنتاج المجتمع من دون حاجة إلى مساعدة خارجية. وهذا صحيح من دون ريب. فواضح جدّا عند الأخذ في الحسبان تاريخ علم الاجتماع بمعظمه، أن علماء الاجتماع درسوا مجتمعات خاصّة بعينها ومعالمها المركزية وقارنوا وقابلوا بينها، وقد استنبطوا تصنيفات نمطية لها تبيّن هذا الأمر بوضوح كبير. قصد التقسيم القديم بين العالمين الأوّل والثاني ومجتمعات العالم الثالث، شدّ الانتباه إلى التباينات الضخمة في الثروة والإنتاج الاقتصادي عبر العالم، بينما تقوم الآن بوظيفة شبيهة بالمناقشات المعاصرة عن ظروف العيش المختلفة والآفاق المنتظرة في البلدان المتقدّمة والمتخلّفة. ما زالت تلك التصنيفات مفيدة لتنبهنا إلى أنواع اللامساواة في العالم وكذلك إلى قضايا السلطة/ القوّة. على الرغم من ذلك، فإنّ تلك الأوصاف الجرداء تقول لنا القليل، إن قالت أي شيء، حول أصناف اللامساواة وعلاقات القوّة داخل المجتمعات الوطنية. إضافة إلى ذلك، فقد حصلت محاولات كثيرة لفهم التغيير الاجتماعي، باختيار عامل واحد محدّد، ما أدّى إلى نظريات كثيرة عن المجتمع الصناعي والمجتمع ما بعد الصناعي والمجتمع الرأسمالي والمجتمع البحدثي (ما بعد الحداثي) ومجتمع المعرفة ومجتمع المخاطرة وأصناف إضافية أخرى محتملة. تبقى نظريات التغيير هذه كلّها متجذّرة في مفهوم دوركهايم للمجتمع المستند إلى الدّولة، ولكن، والأمر قابل للجدل، فمحاولة استنتاج أنّ معلما واحدا للتغيير الاجتماعي محدّد لجميع المجتمعات تبيّن محدوديات هذا التصور للمجتمع.

يتمثّل مشكل نظري لمفهوم المجتمع في كونه ثابتا نسبيا مثل الشيء الجامد، الأمر الذي أعطى انطباعا أحيانا أنّ المجتمع والفرد «شيئان» منفصلان. ما زال كثر من علماء الاجتماع يرون أنّ هذه الثنائية غير مفيدة وتضليلية. وهي رؤية يتفوق فيها نوربرت إلياس على باقي علماء الاجتماع، إذ لا يزال عمله في علم الاجتماع يوصف بأنّه شكل من «علم اجتماع في سيرورة» sociology process يركّز على العلاقات المتحوّلة على مستويات متنوّعة، ابتداء من التفاعلات الفردية إلى النزاعات بين الدول. ربما كان إلياس الأوّل الذي استغنى عن مثل تلك الثنائيات التي رآها من إرث الفلسفة الغريبة الذي أعاق التفكير والتحليل في علم الاجتماع. فمنذ أواخر القرن العشرين، ما زال مفهوم المجتمع يتعرّض لتحليل نقدي أكثر حدة من خلال إدراك أن القوى الاجتماعية العابرة الحدود الوطنية تصدم بقوّة مع قدرة الدول القومية المنفردة على تحديد مصيرها نفسه. أحدثت العولمة تبرّما كبيرا من مفهوم المجتمع، لا يبدو قادرا على فهم حركية التغير الاجتماعي العالمي. فالشركات الكبيرة المتعدّدة الجنسية لها الآن مداخيل أكبر من الناتج المحلّي الإجمالي في بلدان نامية كثيرة، وهي تنتقل حول العالم باحثة عن مصادر عمل رخيص وبيئات اقتصادية مدعومة من الدولة. فالحكومات الوطنية يجب أن يتّحد بعضها مع بعض كي تتحاشى أن تُقاد إلى عملية خلق فرص عمل رخيصة في «مزاد علني للشحاذين». المجموعات الإرهابية مثل القاعدة تنظم وتحشد وتشن هجومات في جميع أنحاء العالم، جاعلة التعاون العالمي أساسا من أجل مقاومتها بفاعلية. فهذه الأمثلة وغيرها تبيّن أنّ مستوى ما فوق الدولة القومية هو بصدد أن يصبح أكثر فاعلية لتشكيل الحياة الاجتماعية، وهو شيء يجب على علماء الاجتماع أن يجدوا له طرائق للتنظير حوله. ومن الأمور القابلة للمناقشة أن مفهوم المجتمع يعيقنا عوضا من أن يساعدنا في فهم العمليات العالمية.

يعتبر مشروع الحراكات mobilities لجون يوري J. Urry مثلا حديثا لمحاولات تجاوز مفهوم المجتمع. فهذا المشروع لا ينكر قوّة المجتمع بالكامل، لكنّه يلحّ بإصرار أيضا على وجود كيانات أخرى قوّية من بينها الوكالات المتعدّدة الجنسية والتكتلات الإقليمية وغيرها. ويتمثّل المشروع أكثر من هذا في الاقتراح الداعي إلى أنّ علم الاجتماع ينبغي أن يكون حول دراسة الحراكات -عمليات الحركة عبر الحدود القومية- التي هي بصدد أن تصبح دائما أكثر تأثيرا في حياة الناس اليومية اعتبارا للزيادة السريعة للعولمة والكمّية الضخمة للبحوث الساعية إلى استكشاف خطوطها ومستقبل اتجاهها، يجادل بعضهم في أن مفهوم المجتمع (ما يشمل سلسلة من الدول القومية المنفصلة) ليس له مستقبل. إنّ عمل جون يوري حول الحراكات مثل حي على ذلك. فالعولمة تشمل حركة سريعة وواسعة حول العالم للناس والبضائع والصور والمال وأشياء أخرى إضافية تعيد تشكيل الطريقة التي نفكّر فيها حول المجتمعات وندرسها من خلالها. استعمل الاتجاه السائد في علم الاجتماع المفهوم الأساس للمجتمع الذي ينظر إليه بوصفه كيانا محدودا متساوي الامتداد كثيرا أو قليلا مع الدولة الأمّة. كان الافتراض هنا أن الدول كانت قوّية بما فيه الكفاية لتنظيم تطوّرها نفسه والسيطرة عليه، الأمر الذي جعل الدول القومية تتبنّى مسارات مختلفة. مع ذلك. عندما أصبحت شبكات التواصل وتدفقاتها أكثر فاعلية وقوّة، نزعت إلى عبور الحدود القومية التي ظهرت الآن بأنّها أكثر قابلية للنفاذ إليها ممّا بدت عليه من قبل. ففي هذا السياق المعولم، أصبح مفهوم المجتمع أقل صالحية لعلم الاجتماع الناشئ في القرن الحادي والعشرين.

تتمثّل مهمّة علماء الاجتماع اليوم في استنباط سبل لفهم السلسلة المتنوّعة من الحراكات ونوع الحياة الاجتماعية الناتج من ذلك. في مقابل الإطار الفكري النظري للحراكات، يرى آخرون أن مفهوم المجتمع يبقى أساسا لممارسة علم الاجتماع اليوم، فالتقييم القائل إنّ مفهوم المجتمع لم يعد ذا أهمية كبيرة يعتمد جزئيا على الادّعاء أنّ الدول القومية لم تعد فاعلة رئيسة في الشؤون البشرية. وهذا الادعاء بعيد من أن يكون حاسما. فالمجتمعات التي لها دول تبقى أكبر «وحدات تنعم بالبقاء» قادرة على تحريك عدد كبير من السكان كي يدافعوا عن أقطارهم. وبتجميع عناصر السيادة في كيانات إقليمية مثل الاتحاد الأوروبي، تحافظ الدول على كثير من قوّتها. يعتبر أوثوايت أن «المجتمع» هو أيضا تصوّر جماعي، ومن ثمّ، فإنّ المفهوم لا يزال له وقعه في إدراك الناس الحسّي للواقع الاجتماعي كما يعيشونه. (مفاهيم أساسية في علم الاجتماع. أنتوني غيدنز، فيليب صاتن).

لغة كلزية

society
لغة فرنسية

société
مراجع

  • مفاهيم أساسية في علم الاجتماع. أنتوني غيدنز، فيليب صاتن؛ ترجمة محمود الذوادي. سَتَلة ترجمان. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018م، الظعاين، قطر.