في عالم تتداخل فيه المفاهيم بين الفلسفة والعلوم الاجتماعية والمسرح والنفسياء، يبرز مصطلح التماسف كأحد المفاتيح المفهومية التي تطوّرت لتفسير ظواهر معقّدة تتعلّق بالإدراك، والتمثيل، والتأويل، والعلاقات الاجتماعية. ويجمع هذا المصطلح بين دلالتي المسافة والتماس العقلي، ويُظهر الأثر المعرفي الذي تحدثه المسافة، سواء كانت زمانية أو مكانية أو شعورية أو رمزية.
1. التماسُف التأويلي – بول ريكور : يُعدّ الفيلسوف الفرنسي بول ريكور Paul Ricœur من أوائل من استعملوا مصطلح distanciation في مجال التأويل، حيث بيّن أنّ الفهم العميق للنصوص لا يتحقّق عبر التماهي معها، بل من خلال التماسف –أي إيجاد مسافة بين القارئ والنصّ المكتوب. فبمجرّد أن يُدوّن الكلام في نصّ، يصبح النص كيانا مستقلّا عن نيّة المتكلّم الأصلية، ويمكن أن يُعاد تأويله في سياقات مختلفة. وَفْقا لريكور، فإنّ هذا التماسف لا يُضعف الفهم، بل يمنحه عمقا، إذ يحرّر النصّ من أُفق مؤلّفه ليصبح مجالا مفتوحا لتعدّد المعاني والتفاسير. هذا المفهوم يعارض الرؤية التقليدية التي تربط الفهم بالتقارب الحميمي مع النصّ. فالفهم الأصيل، بحسب ريكور، يتطلّب تباعدا منهجيا يعيد تنظيم العلاقة بين الذات والمعنى.
2. التماسُف الزَّمَكاني – أنتوني غيدنز : في علم الاجتماع المعاصر، وتحديدا في نظرية الحداثة المتأخّرة كما بلورها أنتوني غيدنز Anthony Giddens، يشير مفهوم التماسف الزمكاني time-space distanciation إلى التحوّل في طبيعة العلاقات الاجتماعية في ظلّ التقدّم الصنعيائي. لم تعدّ العلاقات الاجتماعية مشروطة بالقرب الإراضي أو الزماني، بل أصبح الأفراد قادرين على التواصل والتفاعل والعمل سويّا على الرغم من المسافات الشاسعة التي تفصلهم. مثال ذلك، أن يتمكّن شخص من تنسيق عمل مع فريق في قارّة أخرى عبر البريد التِّقاني أو التطبيقات السَّحابية، أو أن يُنتج عملا فنيا مع مجموعة موزّعة على مدن مختلفة. كلّ هذا يدلّ على أنّ العلاقات الاجتماعية قد تجاوزت حدود الزمان والمكان، وخلقت واقعا جديدا من التماسف الزمكاني. وهذا التحوّل له تبعات عميقة في الهُوّية والاندماج المجتمعي وتصوّر الذات داخل الفضاء العالمي.
3. التماسُف المسرحي – برتولت بريخت : في ميدان المسرح، يُعد الكاتب والمخرج الألماني برتولت بريخت Bertolt Brecht أبرز من طوّر مفهوم التماسف، الذي تُرجم أيضا إلى تغريب أو أثر الاغتراب verfremdungseffekt لكن الترجمة الأدق التي يمكن أن تقترح هي التماسُف المسرحي، إذ تهدف صِنْعات بريخت إلى إحداث مسافة فكرية بين الجمهور والمشهد المسرحي، لئلا يغرق المشاهد في الانفعال العاطفي بل ليحتفظ بموقف نقدي عقلاني. من وسائل التماسف المسرحي: كسر الجدار الرابع، التعليق المباشر على الحدث، استعمال الراوي، فضح الأساليب المسرحية، وغيرها من الوسائل التي تجعل المتفرّج واعيا بأنّه أمام تمثيل لا واقع. وقد هدفت هذه المقاربة إلى جعل المسرح أداة لتغيير الواقع لا مرآة لعكسه فقط.
4. التماسُف الإدراكي – في النفسياء : في النفسياء التحليلية والمعرفية، يظهر التماسف في قدرة الإنسان على الانفصال مؤقّتا عن مشاعره أو تجاربه من أجل تقييمها. ويُعرف هذا المِيفاق أحيانا باسم التباعد المعرفي cognitive distancing، وهو ضروري في معالجة الصدمات أو التفكير في القرارات الشخصية الكبرى. فبدل أن يُستلب الفرد بعاطفته، يُمارس نوعا من التماسف الواعي الذي يُمكّنه من إعادة صياغة تجربته من موقع المراقب. هذا التماسف لا يعني الانفصال البارد عن الذات، بل هو مهارة صحية تُعزّز القدرة على التوازن الانفعالي واتّخاذ القرارات الحكيمة. كما تُستعمل هذه المقاربة في صِنْعات العلاج السلوكي الجدلي DBT والعلاج السلوكي المعرفي CBT لتدريب المرضى على تجاوز التفاعلات التلقائية.
5. التماسُف الثقافي والتربوي : في مجال التربية ونقد الثقافة، يُستعمل المصطلح أيضا لوصف القدرة على النظر إلى الموروث الثقافي، أو إلى العادات اليومية، بوصفها موضوعات للدراسة والتحليل. التماسف هنا هو فعل تربوي يجعل المتعلّم أو الناقد ينظر إلى ثقافته الأصلية بمنظور خارجي، بما يُتيح فرصة لفهم أعمق وتحرّر من التلقين والتكرار. في التربية النقدية، كما في مقاربة باولو فريري، يُعتبر هذا النوع من التماسف خطوة أساسية لتحويل المتعلّم من متلقٍ سلبي إلى فاعل نقدي واعٍ ببيئته وسياقه.
مصطلح التماسُف، يسمح بإعادة بناء المفاهيم ضمن أُطر لغوية عربية لا تفقد المعنى الأصلي، بل تُعزّزه من خلال الجذر الدلالي العربي الذي يجمع بين المسافة واللمس والتماس العقلي. إن التماسف، في جوهره، هو أداة نقد، ووسيلة فهم، وميفاق وجود، يتيح للذات أن تعيد النظر في علاقتها بالنصّ، بالمجتمع، بالواقع، وحتّى بنفسها. ومن ثمّ، فإنّ توطين هذا المصطلح في اللغة العربية يُغني الفكر العربي المعاصر، ويقرّب الهوة بين التفكير العالمي والمعجم الثقافي العربي.