هو عبد الوهّاب محمد أحمد المَسيري، من مواليد مدينة دمنهور، عاصمة محافظة البحيرة في 08 أكتوبر عام 1938م، تحصّل على الحَذاقية والرَّبازة من جامعتي كولومبيا ورتجز الأمريكيتين في الأدب الكلزي والأمريكي المقارن عامي 1963 و1969م، وقام بتدريس الأدب الكلزي والأمريكي والنظرية النقدية في كلّية البنات، جامعة عين شمس، وفي جامعة الملك سعود وجامعة الكويت والجامعة الإسلامية في ماليزيا منذ عام 1969م حتّى عام 1990. وفي هذه الأثناء عمل خبيرا في الصهيونية ومركز الدراسات السياسية «بالأهرام» في الفترة الممتدّة من عام 1970م حتّى عام 1975م، ومستشارا ثقافيا لوفد الجامعة العربية لدى الأمم المتّحدة في عام 1975م حتّى 1979م، ومستشارا دَيْوَنِيا (أكاديميا) في المعهد العالمي للفكر الإسلامي، وقد تُوفي في يوم 29 جمادى الآخرة سنة 1429 (2008م) عن عمر ناهز السبعين عاما بمرض السرطان في مستشفى فلسطين بالقاهرة، وقد شيّعه الآلاف مع عشرات العلماء والمفكّرين، ودُفن في دمنهور.
صدر له العديد من المؤلّفات منها: أسرار العقل الصهيوني، والإيديولوجية الصهيونية، واليهود والصهيونية وإسرائيل، والانتفاضة الفلسطينية والأزمة الصهيونية، والجمعيات السرّية في العالم، ونهاية التاريخ: مقدّمة لدراسة بنية الفكر الصهيوني، والصهيونية والنازية ونهاية التاريخ، كما قام بتأليف موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية وتحريرها، وقد صدرت عن مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام عام 1975م، وتعدّ موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية الصادرة في 8 أجزاء تتويجا لأعماله، وقد أصدر أيضا كتبا ذات طابع فكري مثل الفلسفة المادّية وتفكيك الإنسان، والعلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة في جزأين، وإشكالية التحيّز، ودراسات معرفية في الحداثة الغربية، وله بعض الدراسات الأدبية وقصص الأطفال، وديوانين شعر واحد للكبار وآخر للصغار، كما صدر له كتابان في النقد الأدبي ودراسات في الشعر، وفي الأدب والفكر.
نشأ عبد الوهّاب المسيري في رحاب أسرة تجارية ثرّية ليس عندها اهتمام كبير بالثقافة، فقد كانت أسرته تعتبر أنّ الكتب الوحيدة التي تستحقّ القراءة هي الكتب المدرسية، أما أن يقرأ الشخص كتبا خارج الدراسة فقد كان هذا شيئا غريبا وربّما تضييعا للوقت، ويقول عن نفسه إنّه كان تلميذا «خائبا» في المراحل الأولى من الدراسة، فقد رسب في السنة الرابعة من التعليم الابتدائي، كما أنّه لم ينجح في السنة الأولى من التعليم الثانوي وأضطرّ أن يعيد السنة، ولم تكن المرحلة المتوسّطة أو الإعدادية موجودة في ذلك الوقت، ومن الطريف أنّه كان التلميذ الوحيد الذي رسب في مادّة الرسم، وقد كان مع ذلك الوحيد أيضا بين أقرانه الذي يأخذ دروسا خصوصية، ولمّا انتقل إلى الدراسة في الجامعة التحق بجامعة الاسكندرية وتخصّص في الأدب الكَلَزِي وكان قسم الأدب الكلزي فيها على مستوى عال مقارنة بالأقسام الكلزية في الجامعات الأخرى، يقول عبد الوهّاب عن هذه المرحلة: «عندما رحلت عن دمنهور إلى الإسكندرية، كانت لغتي الكلزية ضعيفة لأنّني درستها في دمنهور على أنّها لغة ميّتة، حتّى إنّني بعد أن التحقت بكلّية الآداب حصلت على تقدير مقبول في السنة الدراسية الأولى، ولكنّني قرّرت بعزيمة دمنهورية قويّة أن أرفع مستواي، فحبست نفسي مدّة شهر كامل لا أتحدّث إلاّ اللغة الكَلَزِية، ولا أسمع إلاّ الإذاعة الكلزية، ولا أقرأ إلاّ الصحف الكلزية، ثمّ خرجت وقد تملّكت ناصية هذه اللغة، وعندما عدت في السنة الدراسية التالية كان مستواي قد ارتفع لدرجة أدهشت الأساتذة». كانت الدراسة الجامعية في جامعة الإسكندرية شاقّة وسببّت له الكثير من المعاناة، ولكن كلّ هذه المعاناة تبخّرت تماما عندما ذهب إلى جامعة كولومبيا في نيويورك، وكانت تضمّ واحدا من أهمّ أقسام الأدب الكلزي في العالم، وعندما حضر أوّل محاضرة اكتشف أنّه ندّ لهم وأنّه يستطيع أن يقارعهم الحجّة بالحجّة، وفي تلك اللحظة بالذات كما يقول زالت كلّ المعاناة التي شعر بها أثناء دراسته في قسم الكلزية بجامعة الإسكندرية، وأنّ أساتذته استطاعوا أن يصلوا به إلى المستوى العالمي، وقد زاد ذلك من ثقته بنفسه.
كان عبد الوهّاب المسيري في شبابه يؤمن بفكرة المجتمع، فالإنسان ليس فردا مطلقا، بل هو جزء من مجتمعه، مع أنّ السائد اليوم هو أنّ كلّ مجتمع يتكوّن من أفراد، وأنّ الفرد يسبق المجتمع، ولكنّه تعلّم في «دمنهور» أن المجتمع يسبق الفرد دون أن يلغيه، وقد انضمّ مبكرا إلى جماعة الإخوان المسلمين، ثمّ خرج منها لأنّه لم يجد في نَهْجلهم حينذاك ما يجيب عن كلّ الأسئلة الفكرية والسياسية التي تشغل باله، ثمّ تعمّقت هذه الأسئلة الفلسفية والفكرية فبدأ يتّجه نحو الماركسية فترجم كتاب «ماوتسي تونغ» عن التناقض، وكانت أوّل ترجمة عربية لهذا الكتاب، حيث كان تركيز «ماوتسي» على التناقض مسألة مهمّة ومختلفة عن النزعة الهيغلية الماركسية التي تصفّي الثنائية وترى أنّ ثمّة نقطة ينغلق فيها الجدل حين تتّحد الفكرة المطلقة مع الطبيعة، والزمني مع اللازمني والمطلق (أي نقطة نهاية التاريخ). ثمّ أصبح بعد ذلك شيوعيا أصوليا، فكانت رسالته للرَّبازة ثوريةً ورَفْضًا للرؤية الأمريكية واقتصاد السوق الحرّ، وحين اطّلع عليها بعض أساتذته وصفها بأنّها رسالة neo-feudalist Marxit أي أنّها ذات توجّه ماركسي إقطاعي جديد، ثمّ تحوّل في آخر عهده إلى الذِّهنياء الإسلامية على أنّها إطار لفهم العالم والتعامل معه، وقد كان هذا على الاحتمال الغالب هو سبب عدائه الشديد «للأمبريالية» والرأسمالية والصهيونية ولكلّ أشكال الاستغلال ومسبّبات الصراع بين البشر، فالعالم في تصوّره ليس ساحة قتال، والإنسان ليس ذئبا لأخيه الإنسان، ففي فترة السبعينيات بدأ المسيري عودته إلى الإسلام ويفسّر سبب عودته هذه وعودة الكثير من أمثاله إلى بداية ظهور أزمة الحداثة في ذلك الوقت، وقد فعلوا ذلك نتيجة إحساسهم بأنّ منظومة الحداثة الغربية الداروينية لم تعد قادرة على إدارة المجتمعات الإنسانية، وقد حوّلت العالم إلى حلبة صراع بين الحضارات والمجتمعات، وأنّها ستُؤدِي حتما بهم جميعا، كما أنّه في تلك المرحلة بالذات بدأ رجاء غارودي بالاقتراب التدريجي من الإسلام.
يذكر عبد الوهّاب المسيري تأثّره الشديد بكتاب «علي عزّت بيغوفيتش» رئيس البسنه سابقا الذي يحمل عُلوان «الإسلام بين الشرق والغرب» وقد ترجمه الأستاذ محمد عدس ترجمة ممتازة، بل إنّ ترجمته العربية أفضل من النصّ الكلزي بأشواط، وكان يقول: لو كنت قرأت هذا الكتاب في مقتبل حياتي الفكرية لوفّر علي وقتا كبيرا ولعجّل بتحوّلي، لأنّه قدّم رؤية إنسانية إسلامية للكون، رائعة وعظيمة، «فبيغوفيتش» ينطلق من الإنسان إلى الماوراء ومنه إلى الله، وليس من الله إلى الإنسان كما يفعل كثير من المفكّرين والدعاة، فهو يذهب إلى أنّ الإنسان كائن «ميتافيزيقي» دائم البحث عن المعنى، لذا لابدّ أن يؤمن بشيء ما متجاوز للسطح المادّي، فإن لم يؤمن بالإله، فإنّه قد يؤمن بالعرق أو بالجنس أو بالرُّضاب (الآيس كريم) فهي «ميتافيزيقا» بلا أعباء أخلاقية. وقد حاول «بيغوفيتش» تقويض النظرية الداروينية المادّية ليس عن طريق الإتيان بأدلّة علمية وإنّما عن طريق توضيح عجزها عن تفسير كثير من الجوانب الظاهرة الإنسانية، فيشير إلى مقدرة الإنسان على أن يضحّي بنفسه من أجل الآخرين، وكيف أنّ هذا يتنافى مع القوانين الطبيعية، وكيف أنّ النظرية الداروينية قد تُفسّر الجانب التشريحي لذراع الإنسان، ولكنّها تعجز عن تفسير ذراع «مايكل أنجلو». وفي هذا الكتاب أيضا «أنّ الإنسان تجاوز فكرة المنفعة المادّية» ولذلك يقول: «لو أنّ الإنسان يعيش في إطار المنفعة المادّية فقط لحسّن من كفاءته كصيّاد ولكنّه لم يفعل، بل تجده يقوم بشعائر دينية ويرسم على جدران الكهوف ويعبد الله، أو الأوثان. أمّا الحيوانات فهي لم تفعل شيئا سوى تحسين كفاءة الصيد. كلّ هذا يدلّ على أنّ هناك داخل الإنسان ما يتجاوز المنفعة المادّية، ومفهوم التراحم يؤكّد أنّ هناك مجموعة من القيم المادّية تتحكّم في الإنسان، لكن إلى جانب هذا هناك شيء آخر يتجاوز المادّة مفطور في عقل الإنسان وقلبه، وهو ما يميّزه عن كلّ الكائنات الأخرى».
من بين الشخصيات التي أثّرت في عبد الوهّاب المسيري المفكّر جمال حمدان، فقد كان يعتقد أن التأثر بشخص ما لا يتجاوز أن يأخذ عنه بعض العبارات أو الأفكار أو بعض الحقائق التي يتبنّاها ويصبح يردّدها من حين إلى آخر، لذلك حينما قرأ كتابات جمال حمدان ظنّ أنّه لم يتأثّر به مطلقا، لكنه أدرك في آخر المطاف أنّ التأثير الحقيقي ينصرف إلى الرؤية الكلّية التي تترجم نفسها إلى منهج دراسة وطريقة تحليل، وهذا هو الأثر الذي تركه جمال حمدان فيه، إذ تغيّرت طريقة رؤيته للجماعات اليهودية، من فخّ المعلوماتية أو ما يسمّيه بالموضوعية المتلقّية أي رصد المعلومات ورصّها دون هدف معروف ومن دون غاية واضحة، وقد وصف أحد الكتّاب الأمريكيين هذه الموضوعية المتلقّية بأنها مثل إحصاء عدد القطط في زنجبار، وبدأ التحرّك نحو ما يسمّيه بالموضوعية الاجتهادية أي الربط بين الحقائق والمعلومات لتُجرّد منها أنماط متكرّرة ثم نماذج تحليلية، وهذا هو أثر جمال حمْدان الحقيقي الذي لم ينتبه إليه في ماضيه بسبب محدودية الرؤية كما يقول.
تأثّر كذلك بالأستاذ «كافين رايلي» وأثّر فيه، وهو المؤرّخ الأمريكي صاحب كتاب «الغرب والعالم: تاريخ العالم من خلال موضوعات»، وقد ترجمه عبد الوهّاب وزوجته الربيزة: هدى حجازي، ونُشر في سَتَلَة عالم المعرفة بالكويت، وقد تعلّم من «كافين» الكثير، وتعلّم «كافين» أيضا منه الكثير كما جاء في مقدّمة كتابه، وكانت صداقته من أكثر الصداقات إثراء له، فقد عاصر هو و«كافين» فترة الستينيات في الولايات المتّحدة، حينما كان الشباب الأمريكي في حالة ثورة ضدّ المجتمع الأمريكي «بإمبرياليته» واستهلاكيته، وكان نشيطا في حركة الشباب اليساري في الولايات المتّحدة آنذاك، وقاما بتأسيس ما سمّياه المنبر الاشتراكي socialist forum وكانوا يعقدون اجتماعا أسبوعيا يناقشون فيه قضايا العالم من منظور اشتراكي. كما تعرّف أيضا على الأستاذ «ديفيد وايمر»، ونشأت بينهما صداقة فكرية وشخصية متينة، وقد أشرف على رسالتيه للرَّبازة ولولاه لما حصل على الدرجة العلمية، وذلك أنّ رسالته كما يقول هو بنفسه كانت تتحدّى كثيرا من الثوابت الفكرية والنقدية الأمريكية. وقد بيّن في هذه الرسالة أنّ «وولت ويتمان» ليس شاعر الديمقراطية الأمريكية كما يدّعي الخطاب التحليلي الأدبي الأمريكي، وإنّما شاعر الشمولية والمادّية الأمريكية. كان يرى أستاذه «وايمر» أنّ نصفه عبقري ونصفه الأخر مجنون، وأنّه من المفيد للوجدان الأمريكي أن يأتي شخص مثله من العالم الثالث ليتحدّى هذا الوجدان، قال الأساتذة الذين ناقشوا رسالته إنّ حياتهم لن تسير على المنوال نفسه بعد قراءتهم لهذه الرسالة، ومع هذا كرهوا كلّ ما جاء فيها، وكان الربيز «وايمر» يهبّ لمساعدته، وفي النهاية وقّع الأساتذة على الرسالة ووافقوا على منحه الدرجة ولكنّهم لم يصافحوه أو يهنّئوه كما هي العادة، بل أداروا ظهورهم له وغادروا القاعة، وهذا يدلّ كما يقول على ضيق أفق هؤلاء الأساتذة، ولكنّه يدلّ في الوقت نفسه على مدى سعة صدورهم، فعلى الرغم من ضيقهم الشديد بأطروحته إلاّ أنّهم وافقوا على منحه الدرجة، ومثل هذا الوضع لا يمكن أن يحدث في العالم العربي.