الاستعبار أو الفنّ الاستعباري، هو العمل الأدبي النثري أو الشعري، يكون في الغالب على شكل حوار مخصّص للأداء؛ وكذلك جميع العناصر اللازمة لأداء الأدوار المسرحية، أو المَخالية، أو الرَّناتية، أو الإذاعية، من كتابة، وإخراج، وتفسير، وزُخرف، وأزياء، وألبسة. غالبا ما يُركّز في التعريفات التي تتحدّث عن الاستعبار وصِنْعاته على المسرح فحسب، في حين أنّ معظم المادّة الاستعبارية، بل القدر الأعظم من الخبرة الاستعبارية الفعلية بالنسبة لأبلاف الناس، مستمدّة من المَخالة والرناة (السينيما والتلفزيون) في المقام الأوّل، والسبب في ذلك يعود إلى ارتباطه الطويل والوثيق بتاريخ المسرح المُوغِل في القِدم. شهد العصر الحديث انفجارا حقيقيا في الاستعبار من خلال البَلَغ الجماهيري، فهناك المزيد من البشر الذين يشاهدونه مقارنة بالماضي، وأصبح وسيلة من الوسائل الرئيسة في نقل المعلومات، ومنهجا من مناهج التفكير السائدة تجاه الحياة ومواقفها، بينما كان الاستعبار المسرحي أو المسرح الحي هو الأسلوب الوحيد لتوصيل العروض الاستعبارية في الماضي. يطرح الاستعبار بعض النماذج الأساسية التي يشكلّ الأفراد على نهجها هُوِّيتهم ومُثُلهم، وتصنع أطر السلوك الجمعي للجماهير، من خلال مغامرات السَّتَلات الرناتية، والشخصيات الفكاهية، والكبار في المَخالة الذين يحتلّون مكانة أبطال الثقافة الشعبية والشَّفاوَة وأساطير العصور القديمة.
يُعتبر العرض الاستعباري عملية يتمّ بواسطتها توصيل معلومات عن الأحداث التي يُعاد إنتاجها عن طريق المحاكاة إلى الجمهور، حيث تمثّل عناصره من لغة الحوار والمنظر والإيماءات والملابس والتغمير، وتنويع الصوت بالنسبة للممثّلين، علامات تشير إلى مكوّنات المعنى الكلّي لمشهد أو حادثة أو لحظة من لحظات الفعل الاستعباري. تُشكّل عناصر قوّة الحدث والانفعال أحد مكوّناته الجوهرية، لذلك تعتبر مباريات الكِوارة (كرة القدم) والسباقات وحوادث الشغب، والاغتيالات كلّها استعبارية، وما يميّز هذه الفعاليات عن الاستعبار بالمعنى الدقيق أنّها حقيقية وليست خيالية fictional. إذن عنصر «الخيال» جوهري في الاستعبار، ولكن إلى حدّ معيّن، فهناك الاستعبار الوثائقي الذي يقوم على أحداث حقيقية، فهو يعيد تمثيل أحداث ماضية، وعرضها على الجمهور كما لو كانت تحدث أمامهم في تلك اللحظة بعينها. تظهر أهمّية الخيال فيما يحدث في عقل المتفرّج، الذي يشهد المسرحية أو القَليد (الفيلم). قد يلاحظ المتفرّج جيّدا أنّ الممثّلة التي تمثّل دور «جولييت» على سبيل المثال ليست على قدر كبير من الجمال، إلاّ وأنّه قد فهم أنّها يُفترض أن تكون رائعة الجمال، سيكمل الصورة في خياله و«يقرأ» الحدث وكأنّه يرى فتاة غاية في الجمال. يكشف لنا هذا على جانب جوهري آخر من جوانب الاستعبار وهو «التمثيل»، فالاستعبار يُحاكي الواقع، ويعيد تمثيل أحداثه، أو يفترض وقوع الأحداث في العالم الواقعي أو المتخيّل. ثمّ إنّ التمثيل هو أداء لنص استعباري، الذي هو مخطّط أوّلي لحدث ما مُحاكى، ولكن ليس النصّ بذاته استعبارا، فالنصّ الاستعباري غير المُؤدّى هو أدب، ويمكن قراءته كقصّة أو رواية، وهنا يتداخل الأدب السردي والشعر الملحمي والاستعبار، أمّا ما يميّز الاستعبار عن هذه الأنواع الأدبية هو بالتحديد عنصر «العرض» أو التمثيل.
أمّا بالنسبة للرواية الحديثة، حيث اُستبدل الراوي العليم بكلّ شيء، بشخصية مستقلّة تحكي القصّة من وجهة نظرها، فقد أصبح الخط الفاصل بين النص الاستعباري والرواية واهيا جدّا، فروايات «بيكيت» هي في حقيقة الأمر مُهاسسة monologue لا تختلف كثيرا عن المُهاسسة الاستعبارية التي نُشرت كمسرحيات، ومن الممكن عرضها من دون تغيير لكلماتها. بالنسبة للأحداث غير السردية، مثل مواكب النصر، والاستعراضات الضخمة للعرائس في الشوارع، والعربات التي تحمل منصّات تصوّر المناظر والشخوص، والاحتفالات التنكرية التي يتنكّر فيها الأشخاص كنوبيين أو قراصنة، والسرك بفقراته التي تقدّمها الحيوانات والسحرة والمهرّجون، وبهرج الأزياء الذي يثير الانفعال الشديد... كلّها تشبه إلى حدّ كبير في تأثيرها الاستعبار المحدّد على نحو أدقّ، وتتضمّن الاحتفالات بما فيها من مظاهر العظمة، أشد العناصر استعبارية وهو «الفُرجة» spectacle، فالعرض العسكري كما يحدث في الساحة الحمراء في روسيا، أو كما كان يحدث عند قبر لينين، أو الطقوس الدينية، أو مراسم تنصيب رئيس الولايات المتّحدة ينظر إليها دائما بدهشة وإعجاب شديدين.
إنّ النقطة المركزية في الفن الاستعباري هو الممثّل الذي يقوم بأداء الفعل المُحاكى، فالممثّل عند ظهوره على خشبة المسرح أو جاشة المخالة، هو في المقام الأوّل شخص حقيقي، بلحمه وشحمه وعظمه وبصوته وطباعه، وهو ثانيا متحوّل ومقنّع بملابس وتغمير (ماكياج) وصوت منتحل، وهو موقف عقلي نابع من تقمّص الشخصية الخيالية التي يلعبها، فالرجل المخمور هو شخص حقيقي، وفي الوقت نفسه علامة ليس لنفسه وإنّما لفئة عامّة هم السكارى، ويمكن لهذه العلامة أن تحلّ محل عبارات مثل: «ها هو ذا رجل سكّير» أو «كان هناك رجل سكّير» أو «هناك الكثير من السكارى في هذا العالم»، وقد اُختير السكّير ليعمل كعلامة، لأنّ بعض صفاته أو ملامحه وليس أبدا كلّ صفاته أو سماته، إنّما بعضها فقط الجوهرية، لغرض الإظهار، تجعله نمطيا. كما يُعتبر الجمهور عنصرا أساسيا أيضا، حتّى التدريبات لها جمهور، والذي يتكوّن من المخرج والممثلّين أنفسهم حيث يراقبون تطوّر أدائهم لأدوارهم وفعّالية هذا الأداء. وإذا كان التمثيل هو الشكل الفنّي الخاص بالاستعبار فإن الاستعبار يمكن أن يوظّف كلّ الفنون الأخرى: التصوير، النحت، العمارة لتمثيل البيئة، الموسيقى، الغناء، الرقص، لذلك يُعتبر من أكثر الفنون تهجينا، أو المُركّب الأكثر اكتمالا بين كلّ الفنون. إنّ الزمن في العرض الاستعباري متحرّر من كلّ القيود، فيمكن أن يختزل أو يمتدّ أو يُعجّل أو يُبطّأ، بل يمكن في حدود أن يتجاوز الطبيعة غير الانعكاسية للزمن، بينما الزمن الواقعي أحادي الاتجاه، ولا يتكرّر مرّة أخرى، كما قد يستغرق تسلسل الأحداث على المسرح أو المِرناة، المدّة نفسها التي يستغرقها في الواقع، وبالتالي تحدث الأحداث في الزمن الطبيعي، وعلاوة على ذلك، يمكن أن تنتهك الخطّة الزمنية للعرض الاستعباري، إذ يمكن أن تعرض الأحداث من دون تسلسل زمني، حتّى في عالم متخيّل، وفي الاستعبار كما في الرواية قد تكون لَوامِح استرجاعية flashbacks أو لوامح استقدامية flashforwards، كما يمكن أن تسير الأحداث بترتيب معكوس.
إنّ العَرْض الاستعباري نَصَمي (أيقوني) في أساسه، فأشكال الأشخاص التي نراها مرسومة على أبواب المراحيض هي علامات نصمية واضحة، وكذلك رسم السرير حيث يعتبر نَصَمَة يعرف بها السائح مكان النُّزُل. وبطبيعة الحال فإنّ العلامات النصمية منتشرة انتشارا واسعا، وليست كلّها تصويرية، فصوت محرّك السيّارة في مسرحية هو نَصَمة لصوت نفير سيّارة، كما أنّ اللحية البيضاء على الممثّل هي علامة نصمية للكبر في السنّ، ولكن قد تكون أيضا إشارة رمزية إلى الحكمة. لذلك تعتبر كلّ لحظة من لحظات الحدث الاستعباري علامة بصرية أو سمعية مباشرة للواقع الخيالي أو بالأحرى المعاد إنتاجه. أمّا الإيماءات التي نستعملها في حياتنا الواقعية، والتي يحاكيها الممثّلون، فإنّها تنتمي إلى فئة أخرى من العلامات، مثل إشارة الأصبع في اتّجاه الشخص المعني، التي يقوم بها الممثّل عندما يُسأل عن شخص ما «أين هو؟»، وتُسمّى هذه العلامات مُؤشّرية index. هناك فئة ثالثة من العلامات، لا ترتبط بعلاقة عضوية يمكن إدراكها فورا مع مدلولاتها signifieds بخلاف العلامات النصمية والمؤشّرية، تُسمّى هذه الفئة من العلامات «بالرموز» symbols، ويُستمدّ معناها من التراث، فأصوات الحروف: «ك، ل، ب» تشير إلى نوع معيّن من الحيوانات وهو الكلب، وأولئك الأشخاص الذي يحيطون علما بهذا التراث هم المتحدّثون باللغة العربية. المؤشّر، والنصمة، والرمز، هي الأنواع الثلاثة التي يتميّز بها الاستعبار في نظام العلامات. وعلى هذا يمكن وصف التمثيل بأنّه فنّ يهتمّ إلى حدّ بعيد بالاستعمال النصمي القصدي لعلامات أو رموز غير قصدية في أساسها وغير إرادية، فاحمرار الوجه خجلا علامة غير إرادية على الشعور بالحرج، إلاّ أنّه عند الممثّل يعتبر جانبا من جوانب عمله، وهو قدرته على الاحمرار خجلا عن قصد وعلى الضحك والبكاء إراديا.