يتضمّن العلم مجالا واسعا من المعاني، وتعتبر تعريفات المعاجم جزءا يسيرا منها، فهو مرتبط بأشياء كثيرة جدّا في مجتمعاتنا وثقافاتنا القديمة والمعاصرة، تبتدئ هذه الأشياء ممّا تنتجه المصانع اليوم وقد لا تنتهي بالسَّنون أو النهاجل السياسية، لذلك نجد اختلافات كثيرة في تعريف العلم، فقد قال الزبيدي اللغوي: «ووقع خلاف طويل الذيل في العلم، حتّى قال جماعة إنّه لا يُحدّ، لظهوره وكونه من الضروريات، وقيل لصعوبته وعُسره». وقال الرازي في تفسيره بعد ذكره لعدد من التعريفات: «ولما ثبت أنّ التعريفات التي ذكرها الناس باطلة، فاعلم أنّ العجز عن التعريف قد يكون لخفاء المطلوب جدّا، وقد يكون لبلوغه في الجلاء حيث لا يوجد شيء أعرف منه ليُجعل مُعرِّفا له». ومن التعريفات التي ذكرها علماء الإسلام قديما: «العلم إدراك الشيء بحقيقته»، وقيل: «إنّ العلم هو الاعتقاد الجازم الثابت المطابق للواقع، أو هو صفة توجب تمييزا لا يحتمل النقيض، أو هو حصول صورة الشيء في العقل». وقيل: «زوال الخَفاء من المعلوم». ويُعرّفه ابن تيمية بقوله: «العلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول، وقد يكون علم من غير الرسول، ولكن في أمور دُنيوية مثل الطبّ والحساب والفلاحة والتجارة». فبالدليل يكون الفرق بين العلم وغيره، فالفنون لا تحتاج إلى دليل، والذي قام عليه الدليل بوضوح ثلاثة أبواب: الدين ومصدره الخبر، والتِّياسة ومصدرها الاستنباط، والطبيعة ومصدرها الاستقراء.
العلوم الشرعية النقلية محدودة، وقد انتهت فيها مدارك الناظرين إلى الغاية التي لا شيء فوقها، وهُذّبت اصطلاحاتها ورتّبت قواعدها، فجاءت من وراء الغاية في الحسن والتنميق، على حدّ قول ابن تيمية. إلاّ أنّ العلوم المتعلّقة بالمحسوسات والمشاهدات، فواسعة لا نهاية لغورها كالعالم الطبيعي الذي لا نهاية له، حتّى أصبحت كلمة العلم إذا أطلقت اليوم لا يراد بها إلاّ هذا النوع من المعرفة، وقد شاء الله تعالى أن يكون لهذه العلوم البشرية العقلية شأوا بعيدا في القرون الثلاثة الأخيرة، وأن يجعل لأوروبا والعالم الغربي شأنا عظيما في رعايتها والنهوض بها وتطويرها، بصورة لم يعرف البشر لها مثيلا، وقد ارتبط العلم بالصِّنعياء إلى درجة أصبح من الصعب اليوم التفريق بينهما أو التمييز، فحينما نفكر في العلم يتبادر إلى أذهاننا تلك التسهيلات التي تقدّمها لنا الصنعياء، كما أنّ تلك الأشياء الصناعية المتطوّرة التي لا نستطيع أن نستغني اليوم عنها، تدعونا إلى التفكير في العلم. وقد وصل الدمج بين الاثنين أن ظهر مصطلح «العَلْصَنة» technoscience لا سيّما في الدول الغربية، حيث تتزايد هيمنة الاعتبارات الصنعيائية القينيائية وإيجاد الحلول لها، على المشاكل الفكرية اليومية، فأصبح العلم والصنعياء من الموضوعات الشائعة عند التعرّض لمحتوى العلم ومضمونه، فالعلم أداة أساسية في السعي إلى القوّة، ويتيح القدرة على التحكّم فيما يحيط بنا، كما يُقنّن أشكال السيادة الموجودة في المجتمعات الصناعية، وهو مكوّن مركزي في أسلوب عمل المخطّطات الرأسمالية ومشروعاتها، حيث يعطي المعرفة اللازمة لتطوير السلع وتقديم الخدمات، ويمنح الثروة لمن يتحكّمون فيه.
يمكن تعريف هذا العلم بأنّه: «شكل من أشكال المعرفة، ومجموعة من الصِّنْعات والوسائل التي تقدّم وصفا صادقا عن المَحاط الطبيعي، بواسطة تحليل مكوّناته الأساسية، والتعرّف على القواعد والقوانين التي تحكم سلوك هذه المكوّنات». يعتبر مايكل فرداي Michael Faraday أحد كبار علماء بريطانيا له إسهامات نظرية وعملية عظيمة في دراسة ظاهرة الكهرب، وفهمها في بداية القرن التاسع عشر الميلادي. يرى فارداي أنّ العالم مشيّد على اعتباره وحدة كلّية، وأنّه تَشَكّل من خلال التفاعل المستمرّ بين عناصر الطبيعة وقُواها، وعلى ذلك تتحدّد مهمّة العالِم في اكتشاف الأنماط المنتظمة في الطبيعة، ووصف القوانين التي تحكم سلوك الظواهر الطبيعية. ويرى كونانت Conant أن العلم: سَتَلة من تصوّرات ذهنية ومشروعات تصوّرية مترابطة ومتواصلة، هي نِتاج لعمليتي الملاحظة والتجريب. تتّفق هذه النظرة للعلم مع نظرة كيرلنجر kerlinger الذي يرى أن العلم يُعرف بوظيفته الأساسية المتمثّلة في التوصّل إلى تعميمات، بصورة قوانين أو نظريات، تنبثق عنها أهداف فرعية، تتلخّص في وصف الظواهر وتفسيرها، وضبط المتغيّرات للتوصّل إلى علاقات محدّدة بينها، ثمّ التنبّؤ بالظواهر والأحداث بدرجة مقبولة من الدقّة. بشكل عام تتّفق التعريفات المختلفة للعلم في نقطتين أساسيتين، هما: (1) أنّ العلم هو المعرفة والإدراك، (2) وأنّه ينشأ نتيجة للدراسات والتجارب.
منهج العلم الحديث والطريق إليه وإلى نظرياته
تُرجع فلسفة العلم الحديثة العلم إلى نوعين: العلوم التياسية بمنهجها الاستنباطي، والعلوم الطبيعية بمنهجها التجريبي، وقد تولّد عن المزج بين المنهجين منافع كبيرة. توجد صورة عامّة للمنهج العلمي بخطوات لا يُشترط فيها التتابع دائما، وهذه الخطوات هي:
الملاحظة: وهي المشاهدة الحسّية الواعية لشيء ما، وتقدير أهمّيته بإرجاعه إلى شيء آخر ملاحظ أو معروف من قبل، لذلك تشتمل الملاحظة الفعّالة على عنصرين في آن واحد، هما: الإدراك الحسّي والعنصر الذهني. من المستحيل ملاحظة كلّ شيء، إنّما يتعيّن على الملاحظ تركيز الاهتمام على مجال معيّن، والبحث بصفة خاصّة عن أي ارتباطات ذات دلالة بين الأشياء المُشاهدة، وفي الوقت نفسه التنبّه إلى الأشياء الأخرى لا سيّما ما كان شاذّا منها.
التجربة: على الرغم من أهمّية التجريب في أغلب فروع العلم، فإنّه لا يناسب جميع فروع البحث، فهو لا يُستعمل في الحِياوة الوصفية، أو المشاهدات الخاصّة بعلم البيئة، ولا في أغلب البحوث الطبّية التشخيصية، ومع ذلك فإنّ الكثير من المبادئ المستعملة في الأبحاث التجريبية، تستعمل أيضا في هذه الأنواع من الأبحاث، الفرق الرئيس بينهما أنّ في حالة الأبحاث التجريبية تصطنع ظروف التجربة، بينهما في العلوم الأخرى يتمّ جمع المعلومات الموجودة في الطبيعة بدل اصطناعها. تتضمّن التجربة «إعادة إحداث واقعة في شروط معروفة، يُستبعد فيها أكبر قدر ممكن من المؤثّرات الخارجية لإجراء ملاحظات دقيقة، تُسفر في النهاية عن اكتشاف ما بين الظواهر من ارتباطات».
الفَرْض: هو تفسير علمي مؤقّت مقدّر، يوضع لظاهرة ما بقصد الكشف عن حقائق جديدة متعلّقة بها، وهو أهمّ وسيلة ذهنية لدى الباحث، مهمّته فتح الطريق أمام تجارب ومشاهدات جديدة، والواقع أن أغلب التجارب وكثيرا من المشاهدات، تُجرى خصّيصا لاختبار الفروض، وقد يؤدّي إلى كشوف حتّى ولو كان هو ذاته غير صحيح، فقد استطاع القدماء أن يفسّروا الخسوف والكسوف تفسيرا صحيحا بالاعتماد على هيئة بطليموس التي جعلت من الأرض مركزا للكون، وعلى الرغم من النتائج الصحيحة التي تمخّضت عنها...، إلاّ أنّ نظام بطليموس الفلكي لم يكن صحيحا، فمن الممكن أن نسير بالفرض في الطريق الخاطئ ونصل في النهاية إلى الهدف الصحيح. من الوظائف الأخرى للفرض أنّه يُساعد على تقدير أهمّية شيء أو حادث، قد لا يعني شيئا لولا هذا الفرض. ومن الاحتياطات اللازمة عند استعمال الفروض، التخلّي عن الأفكار التي لم تثبت صلاحيتها، أو تعديلها حالما يتّضح أنّها لا تتمشّى مع الوقائع، ولتجنّب الشعور بالخيبة عند التخلّي عن فرض قديم، أن يكون في الإمكان إحلال فرض جديد محلّه. كما أنّ بعض الفروض تكون بالغة حدّ الكمال، لكن الطرق الفنّية أو المعلومات المنتمية إلى ميادين متّصلة بها قد لا تكون متاحة بعد. كما يجب أيضا التحكّم الذهني في إخضاع الأفكار إلى الوقائع والأدلّة الموضوعية، وأن لا يسمح الباحث للآراء المضلّلة المنحازة لفرضه أن تدفعه إلى تسجيل مشاهدات زائفة. ومن الممكن استعمال الافتراضات suppositions من دون الإيمان بها.
القانون العلمي: يأتي القانون العلمي من الفرض الذي يُعتمد بالتحقيق والإثبات، فهو تفسير علمي نهائي للظاهرة قد تمّ التحقّق منه، مع خلاف في فلسفة العلم، هل القانون العلمي تفسير للظاهرة أم هو مجرّد وصف مفيد؟
يُعتبر هذا النموذج، الصورة الأشهر للمنهج العلمي المعتمد على الاستقراء حتّى نهايات القرن الثالث عشر، التاسع عشر الميلادي، فالاستقراء التقليدي هو الملاحظة والتجربة، ثمّ وضع الفروض، ثمّ التحقّق من هذه الفروض، إلاّ أنّ التطور الحاصل اليوم في المجالات العلمية المختلفة، والتقدم في صناعة الأدوات وأجهزة الكشف والقياس، أضاف على الفرض في الاستقراء التقليدي، ثلاثة أنواع من الفروض جعلت النظريات المعاصرة أكثر تعقيدا وغموضا، فالفرض العلمي يتكوّن من: التفسير العِلّي، ويمثّله الاستقراء التقليدي، ثمّ التفسير الوصفي الذي يبتعد عن العِلِّية التي امتاز بها النوع الأوّل، مثل نظريات علم الفلك، فهي فروض مؤقّتة قابلة للتطوّر لم تبلغ مبلغ القانون العلمي العِلّي، ثمّ التفسير الفرضي الذي يعطي تصوّرا جديدا للمفاهيم السابقة في المنهج التقليدي، لا سيّما من جهة تخفيف الاعتماد على العِلّية، كما أنّ الملاحظ يكون مشاركا فيه بعد أن كان يُطلب استقلاله، فتدخل فيه الاستنباطات التِّياسية والرؤى الفلسفية. مثلما أثبته أينشتاين، حيث أثبت أنّ علاقات المكان والزمان وقوانين الحركة لا يمكن تعريفها إلاّ بوصفها الموقف الشخصي للملاحظ أو المراقب ولظروفه المادّية، أمّا السمات الأخرى لنظرية النسبية الخاصّة، كتكافؤ المادّة والطاقة، فهي في الواقع نتائج مترتّبة على محورية المراقب، وبفضل النسبية الخاصّة أضحى المراقب فجأت أساسيا من عالَم الريزياء، ولم يعد في مقدور الباحث العلمي أن يعتبر نفسه متفرّجا حياديا كما في نظام نيوتن. وقد أدّى تطوير الفيقياء في العشرينيات الميلادية من هذا القرن على أيدي علماء من أمثال نيلزبورن، وويرنر هايزنبرغ، إلى تضاعف أهمّية دور المراقب في النظرية الريزيائية، يقول الريزيائي ماكس بورن Max born: «لا يمكن وصف أي ظاهرة طبيعية في مجال الذرّات إلاّ بالرجوع إلى المراقب رجوعا لا إلى سرعته فحسب كما في حالة النسبية، بل إلى جميع أنشطته لدى قيامه بالمراقبة، وبتركيب الآلات وما إلى ذلك».
النظرية العلمية: هي مجموعة من القوانين أو الفروض المحقّقة صيغت في بنية فكرية وهي على درجة كبيرة من التعميم، تسمح بتفسير الظواهر مجتمعة. وإذا كانت المشكلات هي النقطة المركزية للفكر العلمي، فإنّ النظريات هي نتيجتها النهائية، وتُعدّ النظريات مهمّة بمقدار ما تقدّمه من حلول ملائمة للمشكلات، فإذا كانت المشكلات هي أسئلة العلم ، فإنّ النظريات تشكلّ إجابات عن هذه الأسئلة، وتكمن وظيفة أي نظرية في كشف الغموض، وردّ الفوضى إلى النظام، لتوضّح أن ما يحدث يُعدّ إلى حدّ ما معقولا، ويمكن التنبّؤ به.
يهدف العلم إلى وصف الظواهر الطبيعية وتفسيرها، كما يسعى للتنبّؤ بما سيحدث في حال ما توافرت بعض الشروط واشتركت معا في مواقف جديدة، لذلك يسعى أيضا إلى التحكم في هذه العوامل المؤدّية إلى حدوث هذه الظواهر أو منع حدوثها. أمّا الخصائص التي يتميّز بها العلم، فهي، أنّ الحقائق العلمية قابلة للتعديل والتغيير، وليست مغلقة، ويعود ذلك لطبيعة الإنسان النسبية في إدراك الواقع، كما يقوم العلم بتصحيح نفسه بنفسه، ويجدّد نفسه وينمو ويتطوّر باستمرار، فقد يُهمِل بعض النظريات القديمة أو يعدّلها بما يتوافق مع الحقائق الجديدة التي تكتشف في مجال من مجالات المعرفة، لا سيّما إذا ما ظهر قصورها في التحليل والتفسير. العلم تراكمي، وهذا ما يجعل العلماء لا يبدؤون أبحاثهم العلمية من الأساس، بل يبنون نظراياتهم ومعارفهم على ما ظهر من صدق النتائج السابقة، التي توصّل إليها العلماء من قبل، وهذا ما يجعل المعرفة تزداد عمقا واتساعا. يتّسم العلم بالشمول والتعميم وبالدقّة والتجريد، فالعلماء يستطيعون من خلال دراسة جزئية معيّنة من تعميم نتائجها على ظواهر مشابهة لها، فتصبح هذه النتائج أعمّ وأشمل. من مميّزات العلم أيضا الدقّة والموضوعية ويبتعد عن الذاتية والذهنياء، ثمّ إنّ العلم نشاط إنساني، لا يختصّ به فرد دون آخر، وتتعتبر نتائج الأبحاث ملكا مشاعا للجميع، تتجاوز الحدود الإراضية أو السياسية، كما تشترك الحضارات كلّها في القيّم التي يكون مصدرها العلم. للعلم أدواته الخاصّة للحصول على المعرفة الموثّقة، وله صلة كبيرة بالمجتمع، يؤثّر فيه ويتأثّر به.
حدود العلم
ترتبط حدود العلم أو حدود المعرفة بالمدى الذي يمكن لما يُسمّى بالمنهج التجريبي أن يكتسب به الإنسان معرفةً جديدة في موضوع معيّن، وإذا كان المنهج الذي يعتمد على المشاهدة والتجربة والقياس، قد أثبت قيمته العظيمة في تاريخ التقدّم الإنساني لا سيّما في العلوم الطبيعية التي تختصّ بالمادّة، إلاّ أنّ هذا المنهج نفسه لم يثبت نجاعته في عدد من ميادين البحث العلمي في علوم النفس والاجتماع والاقتصاد وغيرها، وفي هذا الشأن يقول ستيف جونز: «لم تقدّم النظريات العلمية جميعها من حيث الجوهر حلاّ لكلّ شيء، فالعلم لم يستطع أن يقدّم جوابا عن الأسئلة التي يطرحها الفلاسفة أو الأطفال: لماذا نحن هنا؟ وما الهدف من وجودنا على قيد الحياة؟ وكيف يجب علينا أن نتصرّف؟ وعلم الوراثة لم يجب بشيء تقريبا حول السؤالين التاليين: ما الذي يجعل الناس أكثر من مجرّد آلات تحرّكها الحِياوة، وما الذي يجعلنا من بني البشر؟ قد تكون هذه الأسئلة مهمّة، ولكنّ العلماء ليسوا أكثر كفاءة من الآخرين للتعليق عليها. عانى علم الوراثة الإنساني في أيّامه الباكرة إلى حدّ كبير، من الاعتداد بالذات، وفشل في إدراك حدوده، فعادت عليه المعرفة بالخزي، شأنه في ذلك شأن العلوم الأخرى، ولكنّ الوعي الحديث الذي كوّنه سيثير أيضا مشكلات اجتماعية وأخلاقية قلّما تمّت دراستها قبل الآن».
يشاركه هذا الرأي أيضا السير جون إكليس John Carew Eccles، طبيب وعالم باحث في شؤون الدماغ والأعصاب، نال جائزة نوبل في علم وظائف الأعضاء، يقول هذا العالم الكبير: «ينبغي التخلّص من اعتقاد خاطئ يقول به كثير من العلماء وهو أنّ العلم سيوفّر لنا الحقيقة النهائية، والواقع أنّ العلم لا يحمل إلينا الحقيقة، إنّ الذي يفعله العلم هو توفير فرضيات في سعينا الدائب للاقتراب من الحقيقة، ليس للعلماء أن يزعموا أنّ معارفهم تتجاوز هذا الحدّ، إنّ المفاهيم العلمية التي لدينا في الآونة الحاضرة ستتغيّر مع تطوّر العلم. إنّ قانون الجاذبية الذي وضعه نيوتن لم يكن حقيقة نهائية. أفكارنا ما تزال تتطوّر مع الزمن وَفْقا للأبحاث والمعطيات الجديدة، إنّ التغيّرات التي عرفناها في مدى حياة واحدة على سبيل المثال تُعتبر هائلة، وممّا يُؤسف له أنّ العديد من العلماء وشارحي العلم لا يدركون حدود هذا الميدان، إنّهم يتوقعون من العلم أكثر ممّا يحقّ لهم أن يتوقعوه، ثمّ يزعمون أنّه سيتوصّل ذات حين إلى تفسير القيم والجمال والحبّ والصداقة والفنّ والمميّزات الأدبية، هذه المفاهيم ستكون في اعتقادهم، قابلة لتفسيرها على أساس إنجاز الدماغ، وليس علينا في سبيل ذلك إلاّ أن نعرف المزيد عن الدماغ، غير أنّ هذه النظرة ليست إلاّ خُرافة تُشوّش الرأي العام والعديد من العلماء. إنّ مهمّتي كعالم تقوم على القضاء على الخُرافات، وممارسة العلم باعتباره مغامرة بشرية كبرى، غير أنّ فهم الشيء غير الشرح التّام النهائي».
ويضيف قائلا: «لقد قضيت حياتي كلّها باحثا في قضايا الدماغ، وأدركت روعة هذا الكائن العجيب وعرفت مدى الخبرات الواسعة التي يوفّرها لنا، ثمّ وجدت أنّ الدماغ مستودع كبير جدا للذكريات، والوقع أنّ تلك هي مهمّته الكبرى، أو الرئيسة، غير أنّ فحص الدماغ بواسطة جميع الأساليب العلمية المتعدّدة لا يعني أنّني أستطيع أن أعرف لماذا أرى دنيا من نور ولون كلّما فتحت عينيّ. نحن نعيش في عالم من التجارِب، لا في عالم من الأحداث الدماغية، لم يحدث أن رأيت دماغي، أنا لا أعلم إلاّ أنّني أعيش من الصباح حتى المساء بين الأصوات والأضواء، بين اللمس والنطق، بين الفكر والعمل، هذا هو العالم الذي أعيش فيه، ثمّ إنّ الكثير منه لا يمكن تفسيره تفسيرا علميا، والعلم بعد هذا عاجز عن تفسير وجود كلّ شخص منا كفرد فريد بحدّ ذاته، غيرُ قادر أنّ يجيب عن أسئلة أساسية منها: من أكون أنا؟ لماذا أنا هنا؟ كيف حدث أن وجدت في مكان وزمان معيّنين؟ ماذا يجري بعد الموت؟ هذه كلّها مبهمات تتجاوز قدرة العلم. لقد فعل العلم الشيء الكثير في تحطيم إيمان الإنسان بعظمته الروحية، واستبدال ذلك بالاعتقاد بأنّه مجرّد حيوان لا أهمية له، ظهر بالصدفة وبالضرورة على كوكب لا أهمية له في هذا الكون العظيم الاتساع. لكن لا يعني أن الدين والعلم في طرفي نقيض بالضرورة. فالريزيائي الكبير ماكس بلانك كان كاثوليكيا ممارسا، وألبرت أنشتاين كان يؤمن بالله صانع الكون، كذلك ويرنر هايزنبرغ العالم الريزيائي المشهور يحمل أفكارا دينية ولو أنّه لم يكن يمارس الطقوس الدينية».
هناك فلسفة علمية حديثة بدأت تظهر مع بداية القرن العشرين الميلادي، وتتأكّد باستمرار منذ ذلك الوقت، وقد كان لعلمي الريزياء الحديثة والكينياء cosmology بمفاهيمهما الجديدة للزمان والمكان، ولنشأة الكون وتطوّره، دور كبير في بناء هيكلها. هذه الفلسفة الجديدة تختلف عن تلك القديمة التي كانت لا ترى منهجا لمعرفة الحقيقة غير المنهج العلمي التجريبي، والتي استلهمها فرانسيس بيكون وغاليليو في القرن السابع عشر الميلادي واستمرّت إلى العقود الأولى من القرن العشرين الميلادي، يقول في هذا الشأن جون سوليفان G.W.N. Sulivan: «لقد أصبح العلم شديد الحساسية ومتواضعا نسبيا، ولم نعد نُلقَّن الآن أنّ الأسلوب العلمي هو الأسلوب الوحيد الناجع لاكتساب المعرفة عن الحقيقة». ومن حسن الحظ أنّ هذه الفلسفة العلمية الجديدة، التي تؤمن بوجود حدود للمعرفة البشرية تفتح مجالا للإيمان الديني الذي منح الإنسان أفقا أرحب للنظر إلى معنى الحياة وهدفها وقيمها.
المعرفة الدينية
إنّ الاعتراف بحدود العلم وعدم قدرته على إدراك ما لا يقع تحت الخبرة الحسّية، حتّى في عالم الحسّ والشهادة، دلّ ذلك على وجود عالم غيب، لا سبيل لهذه الأدوات أن تدركه، فلا يملك العقل البشري إلاّ الإيمان بما يأتي من ذلك الغيب، كما أنّه لا يوجد اليوم أي باحث في أي اختصاص علمي كان، في استطاعته أن يقدّم مقاربة علمية، وموضوعية، ومقنعة، تحقّق إجماعا عقليا يتجاوز كلّ الذِّهْنِياءات (الأيديولوجيات) عن ماهية الظاهرة الدينية، على الرغم من توافر كلّ أنواع الدراسات الوصفية والتقسيمات والتحديدات والتعريفات.
لقد أضرّ الفكر الديني المسيحي غير العقلاني بالحقيقة الدينية عند الغربيين، وقد حاول الكثير منهم التوفيق بين الإيمان المسيحي وحقائق العلم الثابتة، إلاّ أنّ محاولاتهم باءت بالفشل، ومن هؤلاء عالم النفس الفرنسي «بيار جانيه» Pierre Janet (توفي سنة 1947م)، كتب يقول: «كنت أحلم بتحقيق مصالحة بين العلم والدين، والوحدة يجب أن تتم عن طريق فلسفة متكاملة تُرضي العقل والإيمان. لم أتمكن من تحقيق هذه المعجزة، غير أنّي بقيت فيلسوفا». ويعود السبب في ذلك، أنّ المسيحية وكذلك اليهودية كلاهما فقدتا نصّهما المقدّس الأصلي، الإسلام أحسن حظّا منهما في هذه النقطة بالذات، لكن المعرفة الدينية الموجودة حاليا عند المسلمين هي نتاج الفهم العربي القديم للنص القرآني، والذي تعاملوا معه بتصوّر إحيائي، حيث نظروا إلى ظاهرات الطبيعة والكون في استقلاليتها عن بعضها، وافترضوا فيها نفوسا قائمة بذاتها، فتعبّدوا ظاهرات الكون كما تعبّدها الإنسان الأوّل، وجزّؤوا مصادر القوّة في الوجود إلى عناصر متنابذة من دون أن يتبيّنوا العلاقة الناظمة بين ظاهرتين، وجعلوا لكلّ ظاهرة طبيعية إلها، فللمطر إلهه وللزروع إلهها وللتجارة ألهها وللحرب ألهها، وقد كان هبل إله الحرب عند العرب، لذلك لم يستطيعوا أن يستوعبوا مفهوم الإله الواحد حيث قالوا: «أجعل الآلهة إلها واحدا إنّ هذا لشيء عُجاب» (ص، 5)، فالقرآن الكريم حمل وعيا يفوق وعي العرب قديما، إنّما فهموا مقاصد الإسلام الكبرى من خلال سلوك النبي عليه الصلاة والسلام، لأنّ سلوكه كان القرآن. وقد فسّروا القرآن الكريم بشعر امرئ القيس وعمرو بن كلثوم، على الرغم من أنّ الله جلّ وعزّ يقول: «وما علّمناه الشعر وما ينبغي له، إنْ هو إلاّ ذكر وقرآن مبين» (يس، 69)، كما أنّهم لم يستطيعوا أن يدركوا نسقه ونظامه ومنهجيته، ونظروا إليه مجزّءًا كنظرتهم للكون وظواهره الطبيعية، وما كان متعارضا مع فهمهم وفكرهم قالوا فيه بالناسخ والمنسوخ وكأنّ الله لم يكن يعرف ما ينزّل، ثمّ إنّهم أخضعوا أحكامه إلى ما نُقل من أحاديث وما دُسّ فيها من أكاذيب وأباطيل، وفسّروه بما شاع بينهم من القَصَص التوراتي القديم.
لقد توجّه الوضعيون إلى دراسة القرآن في سياق التطوّر التاريخي البشري لإنتاج الأفكار، مقيّدا بمفاهيم القرآن ودلالاته في عصر التنزيل وعصر التدوين اللاحق، فمعنى القرآن هو ما كان في ذلك العصر، وكلّ توليد لاحق إنّما هو من قبيل الامتداد عن المفاهيم نفسها ولكن بشكل تراكمي، ثمّ هناك التصوّر الإسلامي الذي يتّفق مع هذا التصوّر الوضعي، فكلا التصوّرين يذهبان إلى أنّ معاني القرآن الكريم ومفاهيمه محكومة بعصر التنزيل والتدوين، أي أن هناك العقلية الوضعية التي تؤمن بِتُراخية الأفكار. والعقلية الدينية التي لا تأخذ بمفهوم هذه التُّراخية وتمايز الحقب المعرفية، إنّما ترى أنّ القرآن صالح لكلّ زمان ومكان بالتصوّر القديم نفسه لمعانيه ومفاهيمه. وبهذا يُحكم على القرآن الكريم أن ليس من طبيعته دخول حقل معرفي جديد. فظهر نتيجة لذلك فكر جديد، سُمّي بأسلمة المعرفة أو إسلاميتها وقد سمّاها بعضهم بالفكر الإسلامي المعاصر أو الحديث، انطلقت جهود هذا الفكر من تشخيص حقيقة الأزمة التي عانتها الأمّة عبر تاريخها، وما زالت تعانيها في حاضرها، مع العلم أنّ هذه الأزمة هي فكرية في حقيقتها، وأنّ سائر الأزمات الأخرى وإنّ كانت عميقة ومتجذّرة فهي نتيجة للأزمة الفكرية ومظهر من مظاهرها، وقد اعتمدت هذه الجهود على إعادة فهم النصّ القرآني بما يحتوي عليه من منهجية معرفية، ومن خلال إعادة ترتيب نصوص القرآن الكريم على غير مواضع النزول قبل انتقال الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى، وذلك كي يخرج النص القرآني من تقييده بالظروف التاريخية لأسباب النزول إلى حالة الإطلاق، ليصبح نصّا مضبوطا على مستوى الحرف والكلمة والآية والسورة والسياق، ويقود هذا الضبط إلى منهجية معرفية تجعل الجميع يقرأ القرآن قراءة أحادية الجانب وأحادية المعنى، تفرض نفسها إجبارا على الجميع، وتقدّم جوابا قاطعا على كلّ نقاط الخلاف، وتقود في الوقت نفسه الجميع أيضا إلى الدين الحق بما تكشفه من معرفة جديدة.