العِرْقانية، فرع من فروع العلوم الاجتماعية والسلوكية، تُعنى بدراسة ثقافة جماعة معيّنة أو مجتمع محلّي وتنظيمه الاجتماعي من خلال الملاحظات والمقابلات، كما تدلّ أيضا على مجموع النتاج البحثي المنشور في هذا المجال، منها البيانات الإناسية والتحليلات المتعلّقة بالشعوب، أو بيئاتهم وأساليب حياتهم، والتي تُستعمل بعد ذلك لاستخلاص استنتاجات حول كيفية عمل المجتمعات وشرح أسباب الأنماط المعقدة من السلوك الاجتماعي. تعود جذور العرقانية إلى الإناسة، ويعتبر هذا العلم بمثابة النموذج التفسيري للملاحظة بالمخالطة، وقد أعطى بيترسن Peterson, 2003:8 تعريفا مفيدا للعرقانية، حينما قال: «إنّني أعني بالعرقانية الوصف القائم على تجربة طويلة الأجل، ووثيقة، وانعكاسية بين العلماء والشعوب قيد الدراسة، وتعتبر المعارف العرقانية معارف مكانية إلى حدّ كبير، مستمدّة من الفهم العميق لهياكل الحياة اليومية، ويعدّ النموذج الكلاسيكي للعرقانية هو الملاحظة بالمخالطة والتي تنطوي على علاقات طويلة الأمد نسبيا بين الباحث والمجتمع المضيف، حيث يحاول الباحثون وضع أنفسهم في خضمّ الحياة والأحداث اليومية العادية لهم»، لكن الملاحظة بالمخالطة عنت أشياء مختلفة في سياق الأوضاع الثقافية المختلفة، حيث أخذت معنى خاصّا ضمن الإناسة الأمريكية في حالة القبائل الهارية الأمريكية (قبائل الهنود الحمر)، ما جعل الهدف العرقاني الرئيس هو إنقاذ المعلومات الخاصّة بممارسات ثقافية في طريقها إلى الانقراض.
يحاول العرقاني حلّ الجُفرة code التي تغلّف الظواهر الاجتماعية، وتفكيك شبكة الرموز عن طريق التأويل، لأنّه يتعامل مع الثقافة باعتبارها نمطا متكاملا من المعاني المتجسّدة في الرموز، وعلى العرقاني ألاّ يركّز على تحليل مسهب للبِنْية الاجتماعية، على غرار الدراسات الاجتماعية التي تحاول الوصول إلى قواعد عامّة تفسّر طبيعة العلاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي يخضع لها الأفراد والجماعات، بل عليه أن يسعى إلى رؤية العالم كما يراه الفاعلون الاجتماعيون بغية فهم وجهة نظرهم بشأن قضية من القضايا، من أجل ذلك تستعمل طرائق عديدة لجمع البيانات النوعية عن المعتقدات والممارسات، وعن كلّ ما يحيط بالإنسان من ظروف، وعن تفاعله مع هذه الظروف وما تحدثه من تغيّرات مادّية ملموسة أو معنوية وقيمية مجرّدة في بيئته، وعن البيئة الإراضية، والطقس، ووسائل العيش، والصنعياء المحلّية، والشَّفاوة، والأساطير، وألعاب الأطفال، وعلاقات القرابة. فعلى سبيل المثال تحليل «شور الثقافي» لطريقة سعي نخب الاتحاد الأوروبي لبناء أوروبا، استعمل الملاحظة بالمخالطة، والمَحارة (الأرشيف) التاريخية، وقام بتحليل الوثائق التاريخية والسِيَر الذاتية، والقصص المروية، والمقابلات المسجّلة، والمحادثات غير الرسمية، والصِّنْعات الإحصائية والمسحية، فالصنعات كثيرة ومتنوّعة إلاّ أنّ الملاحظة بالمخالطة ظلّت في صميم العرقانية، والهدف دائما هو استرداد معاني الآخرين.
يشكّل تاريخ طرائق العرقانية حقلا معرفيا من حقول الإناسة ومن تاريخها، ففي أواخر القرن التاسع عشر، ظهرت طريقتان متمايزتان في العرقانية؛ الأولى: اعتمدت على المسوح والأسفار لجمع المعلومات وتحصيل البيانات، وقد قامت على أيدي ملاحظين هواة وآخرين غيرهم؛ والثانية: استندت على طرائق الملاحظة بالمخالطة والمقابلات المباشرة، والتي يقوم بها إناسيون خبراء على مستوى عال من التدريب. لقد كان أسلوب المسوح الذي اُعتمد أوّل مرّة نتاج عدم نضج هذا الحقل المعرفي، فعلى الرغم من أنّه قد جرى على نطاق واسع إلاّ أنّ العمل الأساسي جاء نتيجة اهتمام الإناسيين الأوائل وبعض الأعمال التي قام به وجهاء من القرن التاسع عشر، ومع تطوّر البحث الميداني وتدرّب الإناسيون في الجامعات، تحسّنت معايير بحوثهم، وحلّ النموذج المباشر محلّ النموذج غير المباشر، وأصبح عمل العرقاني منحصرا في رصد طريقة الحياة كما تحدث على أرض الواقع، وليس فقط كما يرويها الناس في المقابلات والدراسات الاستقصائية والمجموعات المركزية focus groups أو الحالات شبه التجريبية، بينما تعني الأبحاث العرقانية بمعناها الدقيق العيش مع الناس بغية اكتشاف طرق الحياة الجديدة، إلاّ أنّه خلال السبعينيات من القرن الماضي في سياق تحدّيات ما بعد البنوية وما بعد الاستعمار التي طُرحت أمام المشروع الإناسي، أصبحت علاقتها بمسألة الموضوعية مصدر مناظرة وخلاف مستمرّين.