ترك الإمام البخاري نحوا من عشرين مؤلّفا في الحديث وعلومه ورجاله، وفي غيره من علوم الإسلام، أشهرها الجامع الصحيح، المشهور بصحيح البخاري. يعتبر صحيح البخاري أوّل كتاب صُنِّف في الحديث الصحيح فقط، وقد جمع فيه البخاري 9082 حديثا -بما فيه من مكرّر- اختارها من ستمئة ألف حديث (600.000)، فبذل جهدا كبيرا ووقتا طويلا خلال ست عشرة سنة حتّى تمّ له تصنيفه على الوضع الذي بين أيدينا، ولم يضع فيه حديثا إلّا وصلّى ركعتين، قال رحمه الله: «جعلته حجة بيني وبين الله سبحانه». وقد سمع کتاب البخاري تسعون ألف رجل من أهل عصره.
شرط البخاري في صحيحه : لم ينصّ البخاري على الشرط الذي أخرج بموجبه أحاديث كتابه ولكنّ العلماء استنبطوا ذلـك من منهجه، وكلّ منصف يرى أنّ البخاري اِخْتار روّاته ممّن اُشتهِروا بالعدالة والضبط والإتقان، وهذا لا يخفى على عالم، كما لا يخفى منهجه الخاصّ في كتابه، الذي يدلّ على عظيم فهمه وسعة علمه، وقوّة استنباطه. وكما استقرأ العلماء شرط البخاري من منهجه استنبطوه أيضا من اسم كتابه، فقد سمّاه «الجامع الصحيح، المسند المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسننه، وأيّامه». فعُلِم من قوله «الجامع» إنّه يجمع الأحكام والفضائل والأخبار عن الأمور الماضية والآتية والآداب والرقائق وغير ذلك. ويطلق العلماء اِسم الجامع على ما يجمع موضوعات الحديث الثمانية، وهي: العقائد، الأحكام، الرقاق، الآداب، (التفسير، والتاريخ، والسير) الشمائل، الفتن وأشراط الساعة، المناقب. ومن قوله «الصحيح» إنه اِحترز عن إدخال الضعيف في كتابه، وقد صحّ عنه أنه قال: «ما أدخلت في الجامع إلّا ما صحّ». ومن قوله «المسند» إن مقصوده الأصلي تخريج الأحاديث المتّصل إسنادها بالصحابة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. من قول، أو فعل، أو تقرير. وإنّ ما وقع في الكتاب من غير ذلك فإنّما وقع تبعا وعرضا لا أصلا ومقصودا.
لم يكتف البخاري بأن يعاصر الرّاوي من يروي عنه، بل أوجب ثبوت لقائه له ولو مرّة واحدة، ومن هنا قال العلماء: للبخاري شرطان: شرط المعاصرة، وشرط اللقاء، في حين أنّ مسلما قد اكتفى بالمعاصرة، وهذا لا يوهن شرط مسلم، لأنّ الثقة لا يروي عن شيخ إلّا ما سمعه منه، كما لا يروي عمّن لم يسمعه، ولكنّ هذا زيادة تشدّد من البخاري، فهو لا يرضى خبرا إلّا إذا صرّح الراوي بسماعه ممّن فوقه، أو ثبت لقاؤه لمن يروي عنه إذا قال: عن فلان، لأنّ عن لا تفيد السماع عنده. فبجموع تلك الصفات وصف الائمة صحيح البخاري قديما وحديثا بأنّه أصحّ الكتب المصنّفة في الحديث، بل إنّه أصحّ كتاب بعد القرآن الكريم، وأجمع الأئمّة من أهل الحديث على أنّ جميع ما فيه من المتّصل المرفوع صحيح، وتلقته الأمّة بالقبول، فعكف الناس على دراسته وحفظه، كما عكف كثير من الأئمّة والعلماء على شرحه وبيان ما تضمنه من علوم وفوائد، فكان كتاب البخاري هذا محلّ حفظ وعناية ودراسة وتقدير من الأمّة الإسلامية وعلمائها، لما فيه من فوائد كثيرة، واستنباطات فقهية جيّدة لا توجد في كتاب مثله. (الوجيز في علوم الحديث، محمد عجاج الخطيب).